تسريبات المدينة المنورة.. المشهد الأخطر!

لم تكن المدينة المنوّرة في أيام حادثة الإفك مدينة هادئة كما يصفها الخيال الوردي، ولم تكن طرقاتها تعبق دائمًا بسلام الملائكة، ولم تكن البيوت مطمئنة في كل لحظة، كان هناك يوم اهتزّت فيه المدينة كلها بصوتٍ واحدٍ لا صاحب له، وشائعةٍ لا رأس لها ولا قدم، وحروفٍ انتقلت من فمٍ إلى فمٍ كأنها ريحٌ عاصفة تسوق الناس ولا يسوقونها.

في ذلك اليوم لم تُختبر عائشة رضي الله عنها وحدها، ولا النبي صلى الله عليه وسلم وحده، الذي وُضع في الميزان كان المجتمع كله.

واليوم، ونحن نعيش زمن «التسريبات» و«الفيديوهات» و«الترندات»، يخيّل إلينا أننا لم نبتعد كثيرًا عن ذلك المشهد.

نفس الأنفاس الساخنة، نفس الوجوه التي تتلذّذ بإشعال النار، ونفس القلوب التي تنكسر دون أن يسأل عنها أحد.

المدينة «ترند»

كانت الحكاية بدأت كهمسة، همسة واحدة، لا دليل، لا شاهد، لا يقين، لكنها خرجت.

والهمسة حين تُحبَى بالهوى، تصبح خبرًا، والخبر حين يتلقّفه الناس بلا عقل، يصبح قضية رأي عام.

لم يكن المجتمع يومها مختلفًا عن مجتمعنا اليوم، فالبعض ينقل، والبعض يعلّق، والبعض يسخر، والبعض يتشفّى، وآخرون يقفون متفرجين يتابعون المشهد ويستمتعون بتوالي الانهيارات.

وظلت الحال كذلك حتى نزل القرآن، لا ليبرّئ فقط، بل ليكشف المرض؛ (إِذْ تَلَقَّوْنَهُ بِأَلْسِنَتِكُمْ) (النور: 15).

الطبيعي أن الإنسان يسمع بأذنه ثم يفكر فيما سمع، ثم يتكلم بلسانه إن شاء، سلسلة منطقية تسلم كل حلقة فيها للأخرى، من الأذن إلى العقل إلى اللسان.

لكن القرآن وصف الذين أشاعوا الخبر بأنهـم: (يَتَلَقَّوْنَهُ بِأَلْسِنَتِهِم)، وهو ما يعني القفز على الأذن والعقل معًا، كأن الشائعة قذفت في أفواههم مباشرة بلا وعي، بلا توقف، بلا تروٍّ، لأن الرغبة في الكلام كانت أقوى من الرغبة في رؤية الحق وإظهاره.

وهذا التعبير القرآني صادم وعميق في الوقت نفسه، إنه يعني الشهوة المجنونة التي تجعل الأخبار لا تمر على القلب ليمتحن النية، ولا على العقل ليمتحن الحقيقة، بل انطلق فورًا إلى اللسان ليُقال ويُعاد نشره، إنها السرعة، والانفعال، والاندفاع وراء اللذة الخفية في نقل ما يهزّ الآخرين.

وهذا نفسه ما يحدث اليوم، فيديو يظهر، ثم شخص يكتب تعليقًا لاذعًا، فآخر يعيد النشر، وثالث يزيد عليه سخرية، وفي الأخير هناك من يفسّر ويحلل وهو لا يعرف شيئًا.

يحدث كل هذا، وللأسف، والقلوب تتفرج، دون بوصلة، تحدد الوجهة، ودون نور يضيء عتمة القلوب التي استمرأت تمرير الشائعات دون تحقق.

القرآن والشائعات

سورة «النور» لم تُنزّل أحكامًا فقهية فقط، إنما وضعت 8 قواعد أخلاقية ومجتمعية، لو التزمنا بها اليوم، لما هدم فيديو بيتًا واحدًا ولا سمم «ترند» قلبًا واحدًا.

1- أحسنوا الظن أولًا؛ (لَوْلَا إِذْ سَمِعْتُمُوهُ ظَنَّ الْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بِأَنْفُسِهِمْ خَيْرًا) (النور: 12)؛ فالمؤمن لا يبدأ بسوء الظن، والقلب الصالح يبدأ بالسَتر لا بالفضيحة.

2- التثبت لا الاندفاع؛ (لَوْلَا جَاؤُوا عَلَيْهِ بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاء) (النور: 13)؛ أمر واضح: لا أدلة إذن لا كلام.

3- إيقاف إعادة النشر؛ (إِذْ تَلَقَّوْنَهُ بِأَلْسِنَتِكُمْ وَتَقُولُونَ بِأَفْوَاهِكُم مَّا لَيْسَ لَكُم بِهِ عِلْمٌ) (النور: 15)؛ لا تكن أنت قناة التضخيم، لا تكن أنت الميكروفون الذي يستخدمه مروجو الشائعة.

4) ما يُقال قد يدمّر أممًا؛ (وَتَحْسَبُونَهُ هَيِّناً وَهُوَ عِندَ اللَّهِ عَظِيمٌ) (النور: 15)؛ هَيِّن في اللسان، عظيم في السماء.

5- الصمت أحيانًا عبادة؛ (مَّا يَكُونُ لَنَا أَن نَّتَكَلَّمَ بِهَذَا) (النور: 16)؛ ليس كل ما نعرفه يُقال، وليس كل ما يُقال يجوز للإنسان إعادته زيادة أو نقصاناً أو حتى نقلًا أميناً كما سمع.

6- الضرر الاجتماعي أخطر من الضرر الفردي؛ (إِنَّ الَّذِينَ يُحِبُّونَ أَن تَشِيعَ الْفَاحِشَةُ فِي الَّذِينَ آمَنُوا لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ َ) (النور: 19)؛ فالذي يحب الفضيحة ليس بريئًا.

7- المجتمع الذي لا يرحم يسقط، فالشائعة لا تضرب فردًا، بل تهز ثقافة مجتمع وثقته بنفسه.

معركة بين الهوى والإيمان

النفس تحب الكلام، والإنسان إذا وقع أمام خبر ساخن يشعر بقوة، بانتصار خفي، بشعور أنه يعرف ما لا يعرفه غيره، وتلك شهوة قل من يستطيع كبح جماحها! شهوة مثل شهوة الطعام والنظر والسلطة نفسها.

والإيمان هنا لا يظهر في الصلاة والصوم فقط، بل في لحظة الإمساك عن الكلمة، فالإيمان الحقيقي يبدأ من اللسان.

إسقاط السمعة بـ«زر»

بكبسة زر، شخص ما قد يصبح حديث الملايين، هل هو مذنب؟ هل هو بريء؟ هل السياق الكامل معروف؟ هل اللقطات معدّلة؟ هل القصة مختلقة؟ هل هناك من يتلاعب؟ لا أحد يسأل، فالجميع مشغول بالمشاركة بإعادة النشر دون أي تحقق.

والأخطر من الفيديو نفسه، الضحك، والاستهزاء، والتحليل، والتعليقات الساخرة، والمزايدات الأخلاقية.

هذه ليست «مشاركة» يا سادة، هذه ليست حرية، هذه طعنات تصوبها لقلوب ليس لها جبر، فقد توقف الوحي، ولن ينزل جبريل بالبراءة مرة أخرى!

ما نود تأكيده أن «حادثة الإفك» لم تكن درساً في التاريخ، كانت بوصلة، والبوصلة اليوم تهتز، عند كل فيديو، عند كل منشور، عند كل كلمة لا تغلف بغلاف التحقق.

إن الله لم يطلب منا أن نعرف الحقيقة دائمًا، لكنه طلب منا ألا نكون جسرًا للكذب، وإن المجتمعات تسقط لا حين يكذب البعض، بل حين ينقل الصادقون الكذب دون أن يشعروا، أو وهم يدركون وتلك ذروة سنام المصائب.

دعوة هادئة

بالله عليك قبل أن تضغط «إعادة نشر»، قبل أن تكتب تعليقًا، قبل أن تبتسم ساخرًا اسأل نفسك: هل ترضى أن يُفعل هذا بك؟، هل ترضى أن تكون سمعتك «ترندًا»؟ هل ترضى أن يكون لسان أحدهم أسرع من عدله وضميره؟

إن كان الجواب: لا، فهذا هو الإيمان، وإلا.


اقرأ أيضاً:

قراءة الغزالي في فضيحة «إبستاين»

المعالجة النبوية الراشدة لقضايا الرأي العام الأخلاقية

شر الفضائح الإلكترونية.. بين كشف الفساد وانتهاك الحرمات

الرابط المختصر :

تابعنا

الرئيسية

مرئيات

العدد

ملفات خاصة

مدونة