تعفُّنُ الدماغِ

«تعفُّن الدماغ».. سَقم هذا العصر المضطرب!

الواثق بالله

03 يوليو 2025

221

ما بالُ هذا الزمان قد تبدّل أهله، وتغيّرت أهواؤهم، وانقلبت مقاييس العقل فيه حتى غدا ما يُضحك السفهاء يُعدُّ عندهم فكرًا، وما يُميت العقل يُؤخذ زادًا للروح؟! ما بالُنا نُحدّق في تلك الشاشات التي لا تُنتج إلا لغوًا، ولا تُفيضُ إلا سفاهةً، حتى أصابنا داءٌ ما عهدتْه الأممُ من قبل، ولا حفظتْه صحائفُ أسلافنا؟!

لقد طلع على مسامعنا في هذا العصر لفظٌ غريب، لا هو من لغة العرب، ولا من بيان البلغاء، إلا أنه وصفٌ صادق لحالٍ بائس، ومَرَضٍ مستشرٍ في أركان العقول، ألا وهو «تعفّن الدماغ».

ذلك تعبيرٌ مجازي، استُعير من لغة القوم ليصف حال قومنا، وكم في استعارة اللفظ من عظةٍ للغافلين، عرّفه أهل العلم –كما نقلت صحيفة «أكسفورد»– بأنه تدهورٌ في الصفاء الذهني، وانطفاءٌ في جذوة الفكر، يطرأ على المرء حين يكثرُ من النظر في المحتويات التافهة، التي لا تُعلِّم عقلًا، ولا تُهذّب خُلقًا، بل تلهيه عن دنياه وآخرته، وتجعله كمن يسير في الضباب، لا يهتدي سبيلاً، ولا يستقرُّ له قرار.

ويا عجبًا! إن أول من ذكر هذا المصطلح لم يكن من أبناء هذا القرن، بل هو الشاعر الفيلسوف هنري ديفيد ثورو، وقد خطّه في كتابه «والدن» عام 1854م، يحذّر فيه من الانحدار العقلي، ويأسفُ لاضمحلال الفكر عند قومه، فكيف بنا نحن وقد صارت الشاشات تُفتح مع كل فجر وتُغلق بعد كل ليل، يعبّ منها الناس كما يعبّ الظمآن من ماء البحر، لا يرويه بل يزيده عطشًا؟

فيا أبناء هذا الجيل، أنتم جيلٌ طيبُ الغرس، وضياءُ الأمل فيكم متوقِّد، لكنّكم تمت إحاطتكم بعالمٍ من الإغواء الرقمي، يُقدّم لكم الضحك السريع، والمعلومة المقطوعة، والصورة العابثة، حتى شغلكم عن لذّة التأمل، ومتعة الفكر، وروعة التأليف.

وليس عجبًا إذن أن تختار مؤسسة «أكسفورد» هذا المصطلح الغريب (تعفن الدماغ) كلمة لعام 2024م، بعدما تزايد استعماله بنسبة فاقت 200%! كأنما الناس أفاقوا على صوتٍ داخلي يصرخ فيهم: كفى لهوًا، فقد بلغ الأمر مبلغه!

وما مظاهر هذا الداء؟ هو ذلك الكسلُ العقلي، وتلك الغشاوة التي تُصيب البصيرة، وتلك العادة الذميمة التي تدفع الإنسان ليقضي الساعات الطوال بين المقاطع المضحكة، والمشاهد السخيفة، لا يقرأ كتابًا، ولا يسمع فكرًا، ولا يذوق علمًا.

بل ظهرت على هذا الجيل مصطلحات تثير الشفقة، مثل «سكبيادي» و«أوهايو»، يتداولونها سخرية من محتوى لا طائل تحته، إلا أنها –وإن بدت ضاحكة– تفضحُ جرحًا عميقًا في النفوس، إذ إن المحتوى التافه صار هو الأصل، وما سواه يُعدّ ثقيلًا مملًّا!

ويحك يا ابن آدم! أيطيب لك أن تُهدر عمرك في اللهو والعبث؟ أليس لك عقلٌ تفكر به، ووجدانٌ تسمو به، وقلبٌ يخفقُ فيك شوقًا إلى المعاني العالية، والغايات النبيلة؟

إن الأطباء وأهل النفس يحذّرون اليوم من أثر هذا السلوك الرقمي المُفرط، ويصفونه بأنه سببٌ للضباب العقلي، وضعف الذاكرة، وتراجع القدرة على التركيز، وأشارت دراسات جليلة إلى أن الإفراط في التمرير المتواصل على الشاشات –ما يسمّونه «doomscrolling»– يؤدي إلى إنهاك ذهني، وقلق داخلي، واضطراب في مهارات اتخاذ القرار.

وما من مصيبةٍ أعظمُ من أن ترى الشاب في مقتبل عمره، وعقله في أشدّ لحظاته نقاءً ونضجًا، قد أضحى لا يقوى على إتمام فكرةٍ واحدة، ولا يُقبل على كتاب، ولا يأنسُ بمقال، بل يُطلب منه التركيز فيُعرض، ويُدعى للتفكير فيستثقل.

فيا أيها الناظر في هذه الكلمات، اعلم أن «تعفن الدماغ» ليس مرضًا في العظام أو الأنسجة، لكنه بلاءٌ في الأرواح والعقول، إنما علاجه في يدك؛ أن ترفق بنفسك، وتمنحها ما تستحق من غذاء الفكر، وهدوء النفس، وصفاء الروح.

عودوا إلى الكتاب، وتأملوا في كلام الحكماء، وصاحبوا الفكرة العميقة كما تصاحبون أعزّ الأصدقاء، فإن العقول لا تُزهِر إلا إذا سُقيت بماء المعرفة، وظُلّلت بظلال التأمل.

الرابط المختصر :

تابعنا

الرئيسية

مرئيات

العدد

ملفات خاصة

مدونة