ثقافة الاستهلاك لدى الشعوب المسلمة.. كيف أصبحنا استهلاكيين لهذه الدرجة؟

من الصعب اليوم تخيل عالم لا تدور فيه الحياة حول ما نشتريه، وما نريد شراءه، وما سنشتريه لاحقًا، أصبح الاستهلاك سمة أساسية من سمات الحياة اليومية، لا بل صار يُنظر إليه على أنه مرادف للنجاح والحرية الفردية، بل أحيانًا حتى للسعادة في مجتمع يقيسك بما تملك لا بما أنت عليه، في كل لحظة، ولكن هذا التعلق الشديد بالاستهلاك لم يأتِ من فراغ، بل نتيجة قرون من التحولات الاقتصادية، والاجتماعية، والنفسية، التي أعادت تشكيل الإنسان؛ من منتِج مبدِع، إلى مجرد مستهلك مترقب لكل جديد.

 

الدور الاقتصادي للدولة |  مجلة المجتمع الكويتية
الدور الاقتصادي للدولة | مجلة المجتمع الكويتية
يعد دور الدولة عاملاً مهماً ورئيساً في تحقيق التنمية، والحرية الاقتصادية المنضبطة بضابط العدل، بالصورة التي تمكنها من توفير حد الكفاية والرفاه لرعاياها، قياماً بدورها في رعاية مصالح الناس الدنيوية والأخروية بمقتضى شرع الله من حفظ الدين والنفس والعقل والنسل والمال.
mugtama.com
×


الجذور التاريخية.. من الضرورة إلى الرغبة

للإنسان بطبيعته احتياجات أساسية لا ينفك عنها بتاتًا، وتتمثل في طعامه وشرابه ومأكله ومسكنه، وكان استهلاكه مقتصرًا على تلبية تلك الاحتياجات مع تفاوت درجات تلك التلبية بحسب القدرات المادية لكل شخص، لكن كل هذا تغير باجتماع أمرين لم يسبق لهما الاجتماع من قبل في حياة البشر إلا بعد الحرب، وهما الرغبة الشديدة في الحياة والاستمتاع بها، وكذا القدرة غير المسبوقة على الإنتاج بكميات تفوق حتى أعداد البشر، ففي الولايات المتحدة وحدها، مثلاً، زاد عدد السكان 3 أضعاف بينما زاد الإنتاج 12 مرة!

فالناظر إلى طوابير الناس حول العالم أمام متاجر «أبل» لا يكاد يخطر بباله أن هذا السلوك الاستهلاكي يضرب بجذوره في بطن الحربين العالميتين، وأن أجداد الواقفين في هذه الطوابير كانوا يومًا ما من الناجين من ويلات هذه الحروب والراغبين في الانغماس في كل لذة تنسيهم تلك الويلات، وأن هؤلاء الأجداد نشؤوا في إعلام يُصور لهم أن الاستهلاك واجب وطني، خصوصًا في أمريكا، حيث رُوّج لفكرة أن شراء المنتجات هو ما يُبقي الاقتصاد قويًا!

أمريكا وولادة ثقافة الاستهلاك الحديثة

في الولايات المتحدة، أدت الشركات دورًا أساسيًا في تحويل الناس إلى مستهلكين دائمين، لم يَعُد هدف الإنتاج تلبية الطلب الموجود، بل خلق الطلب، رواد الأعمال حينها أرادوا أن يجعلوا المستهلك غير راضٍ دائمًا، وهكذا، نشأت فكرة أن الإنسان لا يشتري ما يحتاجه، بل ما يُشعره بالرضا المؤقت، ليعود ويستهلك من جديد!

وكذلك تأثرنا مجتمعيًا بنظام استهلاك الفرد الأمريكي وطريقة معيشته الذي نلاحظه حتى في تصميم مدننا، فبعد أن كان يمكنك الوصول إلى كل شيء بالأقدام توسعت المدن بطريقة تتمحور حول الاستهلاك لا حول الإنسان، بالضبط  كما هي الضواحي الأمريكية أو ما يُعرف بالـ«American Suburbs»، فصارت المنازل كلها مجتمعة في جهة وأماكن الشراء والمولات في جهة أخرى تمامًا بحيث يتطلب الوصول إليها بالسيارة، وبسبب طول الرحلة واحتياج الإنسان إليها اضطر لشراء سيارة أكبر أو ما يعرف بالـ«SUV» وملئها بكميات أكبر لم يكن ليشتريها عادة لولا بعد المسافة، وتدفق هذا السلوك الاستهلاكي إلينا بالتبعية فأصبحت سيارات الـ«SUV»  تمثل الآن أكثر من 45% من إجمالي مبيعات السيارات عالميًا، والـ«SUV»  تعكس مثالًا واضحًا على كيفية التقاء التسويق، والرغبة النفسية، والحاجة الوظيفية، لخلق نزعة شرائية ضخمة، وكيف انتقلت هذه النزعة إلينا بالتبعية.

ولم يكن التأثر من هذا الجانب فحسب، فلا يخفى على كل ذي لب الدور الذي مارسته وتمارسه الولايات المتحدة في هندسة سلوكياتنا حتى بدون إذعان منا، فقبل أن نصير مستهلكين للمنتجات الأمريكية عمومًا كنا مستهلكين لأفلامها وألعابها خصوصًا، ولا شك أننا نتأثر ولو بلا وعي منا بما نرى ونشاهد فنألف ما لكن نألفه، ونعتاد ما لم نكن نعتاده، وغدونا نحب علامات تجارية لا لشيء إلا لكوننا رأيناها غير مرة في أكثر من فيلم أو مسلسل، وهذا فيما يعرف باسم هندسة الموافقة «The Engineering of Consent».

التقادم المخطط

بالإنجليزية «Planned Obsolescence»؛ وهو إستراتيجية تتبعها الشركات لتصنيع المنتجات، بحيث تتعطّل أو تصبح غير قابلة للاستخدام أو غير مواكبة للموضة شكلًا بعد فترة محددة، مما يدفع المستهلكين إلى شراء بدائل جديدة.

أشكال التقادم المخطط

1- التقادم الفني: حيث يتم تصميم المنتج بحيث يتعطّل بعد مدة محددة، باستخدام مكونات أردأ مما يقلل تكلفة الإنتاج، كما لا يتبعها خفض في سعر المنتج، بل العكس في أحيان كثيرة؛ ما يعني تعظيم الشركات لهامش ربحها على حساب المستهلك.

2- التقادم النفسي أو الجمالي: عندما تُغير الشركات التصميمات والأنماط لجعل المنتجات القديمة تبدو قديمة رغم أنها تعمل.

3- التقادم عبر البرمجيات: في الأجهزة الذكية، توقف التحديثات بعد فترة زمنية محددة.

يُعد هذا المفهوم أحد أعمدة ثقافة الاستهلاك الحديثة، إذ يعزز من وتيرة الشراء ويُبقي الأسواق نشطة باستمرار، لكنه أيضًا من أكثر السلوكيات الاقتصادية انتقادًا من ناحية الأثر البيئي والأخلاقي.

 

لماذا تخلَّفنا وتقدم غيرنا؟! |  مجلة المجتمع الكويتية
لماذا تخلَّفنا وتقدم غيرنا؟! | مجلة المجتمع الكويتية
تمتلك الأمة الإسلامية مقومات فريدة تميزها عن غيرها من الأمم، وتمكّنها من امتلاك أسباب القوة
mugtama.com
×


علم النفس والاستهلاك.. كيف نحمي ذواتنا بالشراء؟!

إلى جانب العوامل التاريخية والاقتصادية، تؤدي العوامل النفسية دورًا جوهريًا، فوفقًا لدراسة أجراها سيفاناثان وبيتيت عام 2010م، فإن استهلاك السلع الفاخرة يُستخدم غالبًا كوسيلة لتعويض تهديدات تمسّ تقديرنا لذواتنا، بعبارة أخرى، حين نشعر بالفشل، أو بالتهميش، أو بالنقص، نلجأ إلى الاستهلاك –خصوصًا للعلامات التجارية الفارهة– وهذا لحماية الصورة الذاتية أمام أنفسنا والآخرين، وهذا يفسر انتشار النزعة الاستهلاكية بين الطبقات الأقل دخلًا أيضًا، فالرغبة في الاعتراف الاجتماعي لا ترتبط بالدخل فحسب، بل كذلك بالشعور الداخلي بقيمة الذات، فعندما يشعر الإنسان بالعجز عن تحسين واقعه ماديًا أو اجتماعيًا، فإن الاستهلاك يصبح تعويضًا رمزيًا عن السيطرة المفقودة.

الاستهلاك كهوية اجتماعية

ومع الوقت، أصبح الاستهلاك أداة لتشكيل الهوية، فأنت ما تشتري؛ فهاتفك، وحذاؤك، وملابسك، وحتى نوع القهوة التي تشربها تُستخدم كعلامات لتدل على هُويتك، وقد ضاعفت وسائل التواصل الاجتماعي من هذا التوجه، حيث أصبحت واجهات عرض للأنا المتخيلة، المستندة إلى الاستهلاك، فبتنا نُعرف أنفسنا من خلال ما نمتلك، وما نستهلك، وما نرغب فيه، كما سهلت وسائل التواصل الاجتماعي إصابة مستخدميها بداء المقارنة الذي ما أصيب به أحد إلا وصغرت نعمة الله في عينيه وربما استكثر نعمة ربه على غيره.

وفي ذلك مخالفة لوصية سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم لنا بالرضا في قوله صلى الله عليه وسلم: «ارض بما قسم الله لك تكن أسعد الناس»، وفي رواية: «أغنى الناس»، وما يجره عدم الرضا هذا من سخط على المخلوق إلى سخط على الخالق عز وجل وقسمته في خلقه، إذ الحقيقة أن الاعتراض على ما أوتيه أحد من الناس ما هو إلا اعتراض مبطن على قسمة من أعطاه حقيقة وهو الله عز وجل.

وجدير بالذكر أن سلوك المقارنة من الناحية الاستهلاكية ظهر أول ما ظهر بصورته التي نعرفه عليها اليوم في أمريكا في ظاهرة تُعرف عند الأمريكيين بـ«Keeping up with the Jones’s»؛ التي يمكن أن نُعبر عنها بمحاولة مواكبة الجيران، إلا أنه من خلال «إنستغرام» وغيره صار جيراننا العالم بأسره، ولم يعد هناك حدود لمن يمكن أن نقارن أنفسنا به.

أوكلما اشتهيت اشتريت!

ربما لم يكن لتلك النصيحة الخالدة صدى كما لها اليوم، ففي عالم كُتب بالمال اسمه وتشكل بالإنفاق رسمه لم يعد هناك بد من أن يسعى كل فرد في توعية نفسه بما يحتاجه حقيقة، لا بما يهيئ له هذا العالم أنه يحتاجه، والإنسان على نفسه بصيرة.

الرابط المختصر :

تابعنا

الرئيسية

مرئيات

العدد

ملفات خاصة

مدونة