جريمة الإسماعيلية ومسلسل «ديكستر»!

منى حامد

06 نوفمبر 2025

53

لم تكن الجريمة عادية، بل حملت في تفاصيلها ما يصعب على العقل تصديقه، ضرب متكرر بالمطرقة، ثم تقطيع الجثة بمنشار كهربائي، وصولاً إلى اعتراف صادم بأكل جزء من لحم الضحية.

هذا ما جرى في مشهد تجاوز حدود التصور بمحافظة الإسماعيلية المصرية، وهز الأوساط الشعبية والإعلامية، بعد أن أقدم مراهق لم يتجاوز 13 عاماً على قتل زميله البالغ 12 عاماً بطريقة مروعة، وهي الواقعة التي فتحت الباب واسعاً أمام نقاش لم يهدأ حتى الآن حول الإجابة عن هذا السؤال: ما الذي يدفع أطفالاً في مثل هذه السن إلى ارتكاب جرائم تتجاوز أبشع أفلام الرعب؟

سلطت الجريمة الضوء في معرض الإجابة على زمن أصبحت فيه ظاهرة «العنف الرقمي» مكوناً يومياً في حياة المراهقين من خلال الألعاب الإلكترونية ومقاطع الفيديو المنتشرة على الإنترنت، غير أن ما جرى في الإسماعيلية مثَّل صدمة هائلة، ولا يزال الجدل على منصات التواصل لم يهدأ بشأنها.

خلال ساعات، تحولت الجريمة إلى حديث كل بيت، خاصة على منصة «إكس»، حيث بات وسم «#طفل_الإسماعيلية» ضمن «الترند» في مصر، وسط تساؤلات غاضبة عن دور الأسرة وغياب التربية وتأثير ما بات يعرف بـ«المحتوى المظلم» على الإنترنت، أو ما يعرف بالإنجليزية «Dark Web».

وتكشف النقاشات بشأن الجريمة عن آراء متعددة، فبينما رأى البعض في الجريمة نتيجة تفكك أسري وفراغ عاطفي، اعتبر آخرون أن التكنولوجيا أصبحت «القاتل الصامت» الذي يحول الخيال الدموي إلى سلوك واقعي.

محاكاة «ديكستر»

بدأت القصة في 16 أكتوبر الماضي، حين أبلغت أسرة الضحية عن اختفائه، قبل أن تتحول الواقعة إلى مأساة بعد العثور على أشلاء مقطعة في اليوم التالي بمنطقة كارفور بالإسماعيلية، ومع اعتقال الجاني وبدء التحقيقات، بدأت الاعترافات الصادمة في الظهور، حيث وصف الطفل تفاصيل جريمته بهدوء غير مفهوم، بل أشار إلى أنه استوحى الفكرة من مسلسل أمريكي شهير بعنوان «ديكستر» يدور حول قاتل متسلسل، لكن أكثر ما صدم المتابعين كانت كلماته التي قال فيها عن طعم لحم صديقه: إنه «يشبه البانيه»، ما زاد من موجة الغضب الشعبي ودفع كثيرين إلى مطالبات وصلت إلى حد تأييد تخفيض سن المسؤولية الجنائية.

التحقيقات كشفت أن الطفل كان يقضي ساعات طويلة أمام الإنترنت، يتابع محتوى عنيفاً بلا رقابة، وينعزل تدريجياً عن أسرته ومدرسته، أما الجدل على مواقع التواصل فاشتعل بين من اعتبره مريضاً نفسياً يحتاج علاجاً، ومن رأى أنه تجسيد لانهيار المنظومة الأخلاقية في المجتمع.

انتشرت عبارات مثل «جريمة بشعة» و«سفاح الإسماعيلية»، في مقابل تعليقات أخرى تصفه بـ«ضحية الإدمان الرقمي»، وخلال أول 24 ساعة، تجاوز عدد التغريدات حول القضية 100 ألف منشور، قبل أن تتحول إلى موضوع رئيس في البرامج الحوارية.

وفي هذا الإطار، حذر استشاري الطب النفسي د. جمال فرويز، من تأثير المحتوى المظلم على وعي الأطفال، مرجحاً أن يكون طفل الإسماعيلية فقد الإحساس بالواقع نتيجة الانغماس في مشاهد الدم المتكررة.

تربية الشاشات

أما التحليلات الاجتماعية، فقد سلطت الضوء على جانب آخر؛ إذ يرى مختصون، بينهم د. هالة منصور، أن مثل هذه الجرائم تكشف تصدعاً في العلاقة بين الأطفال والبيئة الأسرية، إذ أصبحت الشاشات البديل عن الحوار والتربية.

وترى أستاذة علم الاجتماع أن الجريمة تعكس تراكم عوامل عنف لدى الطفل، مثل الانفصال الأسري والتأثر بالألعاب الإلكترونية والأفلام؛ ما يؤدي إلى اضطراب نفسي وخلل أخلاقي، مشددة على غياب الرقابة الأسرية والاجتماعية كعامل رئيس، ودعت إلى برامج توعية في المدارس وتعزيز الرقابة على المحتوى العنيف.

وتستند د. هالة في تحليلها إلى دراسات اجتماعية للعنف الطفولي، وتبنت ترجيحاً مفاده أن حالة الطفل غير مستقرة اجتماعياً، وأن مثل هذه الجرائم تحمل جذوراً أسرية صريحة، ما يجعل وقوعها في مجتمع مترابط تحدياً للتوازن بين التنوع والثوابت.

وهنا يشير أستاذ الطب النفسي د. محمد المهدي إلى أن ما حدث في الإسماعيلية يمثل نموذجاً خطيراً للتعلم بالنمذجة؛ أي تقليد الشخصيات العنيفة في الأفلام والألعاب؛ ما يؤدي إلى اختفاء التعاطف وظهور إعجاب مرضي بالدمار، وهي ظاهرة متجاوزة للنطاق المحلي، وباتت متكررة في عديد البلدان العربية.

فيما وصف أستاذ الطب النفسي د. ممتاز عبدالوهاب الجريمة بأنها تجاوز لثوابت النفس الإنسانية وهدم لهوية المجتمع، داعياً إلى رقابة حقيقية على المحتوى الرقمي بدلاً من الاكتفاء بالشجب والتنديد.

برامج توعية

على المستوى الرسمي، أصدرت النيابة العامة المصرية بياناً أكدت فيه أن التحقيقات مستمرة لكشف تفاصيل الجريمة، مشيرة إلى أنها تدرس آليات جديدة للرقابة على الإنترنت، كما وعدت وزارة التربية والتعليم المصرية، في بيان، بإطلاق برامج توعية نفسية في المدارس، لمواجهة ظاهرة العنف بين الطلاب.

أما عائلة الطفل الجاني، فعبرت عبر وسائل إعلام مصرية عن أسفها العميق، واعتبرت أن ابنها بحاجة إلى علاج نفسي عاجل، نافية أن تكون الجريمة بدافع الانتقام أو الكراهية.

ورغم أن الحادث لم يسفر عن قرارات رسمية مباشرة حتى الآن، فإنه لا يزال مثيراً لنقاش واسع حول علاقة الأطفال بالعالم الرقمي، وحول مسؤولية المجتمع عن تنشئة جيل بات يرى العنف تسلية، والدم لعبة، بعدما أثبتت الوقائع أن عديد البلدان العربية باتت أمام تحدٍّ جديد يتمثل في إعادة بناء منظومة القيم في زمن الانفتاح الرقمي بلا ضوابط مؤكدة من جانب الأسرة.

لم تكن جريمة الإسماعيلية مجرد مأساة فردية أو محلية، بل مرآة عاكسة لتحولات عميقة في وجدان الجيل الجديد في العالم العربي، فبين التربية المتصدعة والتكنولوجيا المنفلتة تقف مجتمعاتنا يفرض السؤال المؤلم نفسه: كيف نربي أبناءنا ونضمن تشكيل قيمهم وسط تغول محتوى الشاشة على نفوسهم وعقولهم؟

الإجابة تناولتها دراسة مراجعة منهجية للعوامل النفسية والاجتماعية المرتبطة بالسلوك الإجرامي لدى الأطفال، المنشورة عام 2024م في مجلة «تشيلدرن» التابعة لمؤسسة «MDPI»، من منظور نفسي واجتماعي شامل، وخلصت إلى أن السلوك الإجرامي في الطفولة لا ينشأ من عامل واحد، بل من تفاعل معقد بين مؤثرات عدة، تشمل اضطرابات الانفعال وضعف التحصيل الدراسي، وغياب الروابط الأسرية الداعمة، ووجود بيئة منزلية مضطربة أو مليئة بالعنف، فضلاً عن ضغوط مجتمعية واقتصادية تفقد الطفل الإحساس بالأمان والانتماء.

وتورد الدراسة ذاتها أن مرحلة الطفولة تمثل نافذة تدخل حاسمة، يمكن من خلالها كبح السلوك العنيف عبر برامج مبكرة للرعاية النفسية، وضبط المحتوى الرقمي، وتعزيز المناهج التي تنمي الوعي العاطفي والاجتماعي لدى الصغار.

وفي التوصيات الوقائية، تركز الدراسة على ضرورة بناء منظومة متكاملة تضم الأسرة والمدرسة ووسائل الإعلام لرصد المؤشرات المبكرة للعنف، وإدخال وحدات دعم نفسي في المؤسسات التعليمية وتدريب المعلمين على اكتشاف الاضطرابات السلوكية، إضافة إلى إطلاق حملات توعية مجتمعية تحذر من التطبيع مع العنف في الألعاب أو المسلسلات.

هكذا يؤكد الخبراء أن مواجهة جرائم الأطفال لا تتحقق عبر العقاب فقط، بل من خلال ترسيخ بيئة وجدانية آمنة تحفز قيم التعاطف والانتماء والمسؤولية الاجتماعية منذ السنوات الأولى للنمو، وهو ما يبدو مفتقداً بوضوح في كثير من المجتمعات العربية.

 

اقرأ أيضاً:

«تيك توك» يغتال أطفالك

انتفاضة لحماية الأطفال من عالم «روبلوكس»

الوجه المظلم للشاشات.. كيف تحمي أطفالك من أخطار ‏التكنولوجيا الخفية؟

الرابط المختصر :

تابعنا

الرئيسية

مرئيات

العدد

ملفات خاصة

مدونة