جناح الذل من الرحمة!

(وَاخْفِضْ لَهُمَا جَنَاحَ الذُّلِّ مِنَ الرَّحْمَةِ
وَقُل رَّبِّ ارْحَمْهُمَا كَمَا رَبَّيَانِي صَغِيراً) (الإسراء: 24)؛ يا لجمال التعبير وروعة وبلاغة النص القرآني!
إن صلاح
المجتمعات يعتمد على أمرين:
أولهما: الإيمان
بالله عز وجل والتوحيد الخالص.
وثانيهما: تماسك
الأسرة وقوتها والحب والاحترام فيها.
وأساس تماسك
الأسرة وقوتها حب الوالدين وإكرامهما، وهذا ما كتبه الله في الأزل ونزله في قرآنه
المبين: (وَقَضَى رَبُّكَ أَلاَّ تَعْبُدُواْ إِلاَّ
إِيَّاهُ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَاناً) (الإسراء: 23).
ولكي يعبر
القرآن عن هذا الحب والاحترام والتقدير للوالدين، جاء بهذا التشبيه العجيب، كما
يقول البلاغيون، على صورة الاستعارة المكنية؛ (وَاخْفِضْ لَهُمَا جَنَاحَ الذُّلِّ)؛ الجناح لا يكون إلا للطائر الذي يحلق في السماء، فكأن
القرآن يخاطب كل الأبناء: لن يستطيع أي منكم الارتقاء ولن ترتفع له مكانة ولن يسمو
إلى السماء ولن يصعد له عمل صالح إلا إذا خفض لوالديه الجناح تماماً كالطائر الذي
إذا أراد أن يرتفع يخفض جناحيه أولاً ليقذفه هذا الخفض إلى أعلى!
وقال علماؤنا: لم
يأت الذل في القرآن إلا مذموماً، ما عدا حالتين:
الأولى: في
التعامل مع أخوة الإيمان؛ (أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ) (المائدة: 54).
والثانية: في
احترام الوالدين؛ (وَاخْفِضْ لَهُمَا جَنَاحَ الذُّلِّ).
ولكي يرفع قدر
هذا الذل ويميزه عن الذل المذموم قال تعالى: (جَنَاحَ الذُّلِّ مِنَ الرَّحْمَةِ)؛ فليس ذلك ذلاً ناجماً عن الخوف ولا عن المهانة ولا عن
التحقير ولا عن أي معنى خسيس، وإنما هو الذل الذي ينبع من الرحمة التي هي صفة
الرحمن الرحيم، وهو الذل الذي ينبع من الحب ومن التقدير ومن التكريم ومن الامتنان،
ومَن أولى بهذا من الوالدين؟!