جهد المقل.. لماذا يسبق الدرهم الواحد مائة ألف درهم في الصدقة والأجر؟

روى أبو داود، والترمذي، بسند صححه الحاكم وحسّنه الألباني عَنْ ‌زَيْدِ بْنِ أَسْلَمَ، عَنْ ‌أَبِيهِ قَالَ: سَمِعْتُ ‌عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ رضي الله عنه يَقُولُ: أَمَرَنَا رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَوْمًا أَنْ نَتَصَدَّقَ، فَوَافَقَ ذَلِكَ مَالًا عِنْدِي، فَقُلْتُ: الْيَوْمَ أَسْبِقُ أَبَا بَكْرٍ إِنْ سَبَقْتُهُ يَوْمًا، فَجِئْتُ بِنِصْفِ مَالِي، فَقَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «مَا أَبْقَيْتَ لِأَهْلِكَ؟»، فَقُلْتُ: مِثْلَهُ، قَالَ: وَأَتَى أَبُو بَكْرٍ بِكُلِّ مَا عِنْدَهُ، فَقَالَ لَهُ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «مَا أَبْقَيْتَ لِأَهْلِكَ؟»، قَالَ: ‌أَبْقَيْتُ ‌لَهُمُ ‌اللهَ ‌وَرَسُولَهُ، قُلْتُ: لَا أُسَابِقُكَ إِلَى شَيْءٍ أَبَدًا.

في هذا الحديث بيان ما فعله أبو بكر، وعمر، رضي الله عنهما، حين دعا النبي صلى الله عليه وسلم إلى الإنفاق، حيث أنفق عمر نصف ماله، وأنفق أبو بكر ماله كله، وفي الحديث غياب تام لمقدار المال الذي أُنفِق من حيث العدد، لكنه إثبات إنفاق كل المال أو نصفه، وفيه تأكيد أن إنفاق نصف المال كان أفضل وأسبق من إنفاق نصفه، وفي كلٍ خير.

لكنه يلفت النظر إلى أن العطاء قد يكون قليلاً، لكنه أعظم عند الله من عطاء كثير، وذلك حين يكون القليل هو جهد المقل؛ أي: محدود المال بصدق وإخلاص، ويتبين ذلك فيما يأتي:

1- لن تنالوا البر حتى تنفقوا مما تحبون:

قال تعالى: (لَنْ تَنَالُوا الْبِرَّ حَتَّى تُنْفِقُوا ‌مِمَّا ‌تُحِبُّونَ وَمَا تُنْفِقُوا مِنْ شَيْءٍ فَإِنَّ اللَّهَ بِهِ عَلِيمٌ) (آل عمران: 92)، ففي الآية تأكيد على أن بلوغ درجة البر لا يتحقق إلا إذا أنفق المسلم مما يحب، ومن المعلوم أن المال إذا كان كثيراً فإنه يكون زائداً عن حاجة صاحبه، فهو ينفق منه ويتبقى معه مما يحبه منه، لكن المال إذا كان قليلاً فإنه يكون محبوباً لصاحبه، فإذا أنفق منه كان ذلك بعد مشقة ومجاهدة، فهو القليل الذي يحتاجه، فإذا قدّمه لله بلغ منزلة البر.

2- إنفاق المقل سبيل إلى فلاحه:

يبلغ محدود المال منزلة عظيمة حين ينفق منه، فهو الذي يؤثر غيره على نفسه، وهو الذي انتصر على نفسه، واتقى البخل والشح، ومن فعل ذلك فهو من المفلحين، قال تعالى: (وَالَّذِينَ تَبَوَّءُوا الدَّارَ وَالْإِيمَانَ مِنْ قَبْلِهِمْ يُحِبُّونَ مَنْ هَاجَرَ إِلَيْهِمْ وَلَا يَجِدُونَ فِي صُدُورِهِمْ حَاجَةً مِمَّا أُوتُوا وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ وَمَنْ يُوقَ ‌شُحَّ ‌نَفْسِهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ) (الحشر: 9).

3- أفضل الصدقة:

روى أبو داود في سننه بسند صححه الألباني عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، أَنَّهُ قَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، أَيُّ الصَّدَقَةِ أَفْضَلُ؟ قَالَ: «‌جُهْدُ ‌الْمُقِلِّ، وَابْدَأْ بِمَنْ تَعُولُ»؛ أي أفضل الصدقة ما يبذله الفقير مع قلة ذات يده، كما أن صدقة المقلّ تدل على صدق الاعتماد على الله؛ لأنه يعطي وهو محتاج.

4- سَبَقَ دِرْهَمٌ مِائَةَ أَلْفِ دِرْهَمٍ:

روى أحمد في مسنده عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، أَنَّ رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «‌سَبَقَ ‌دِرْهَمٌ ‌دِرْهَمَيْنِ»، قَالُوا: وَكَيْفَ ذَاكَ يَا رَسُولَ اللهِ؟ قَالَ: «كَانَ لِرَجُلٍ دِرْهَمَانِ، فَتَصَدَّقَ أَجوَدَهُمَا، فَانْطَلَقَ رَجُلٌ إِلَى عُرْضِ مَالِهِ، فَأَخَذَ مِنْهُ مِائَةَ أَلْفِ دِرْهَمٍ، فَتَصَدَّقَ بِهَا».

5- كُلُّكُمْ فِي الْأَجْرِ سَوَاءٌ:

روى أحمد في مسنده عَنِ الْحَارِثِ، عَنْ عَلِيٍّ رضي الله عنه، قَالَ: جَاءَ ثَلاثَةُ نَفَرٍ إِلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَقَالَ أَحَدُهُمْ: يَا رَسُولَ اللهِ، كَانَتْ لِي مِائَةُ دِينَارٍ، فَتَصَدَّقْتُ مِنْهَا بِعَشَرَةِ دَنَانِيرَ، وَقَالَ الْآخَرُ: يَا رَسُولَ اللهِ، كَانَ لِي عَشَرَةُ دَنَانِيرَ، فَتَصَدَّقْتُ مِنْهَا بِدِينَارٍ، وَقَالَ الْآخَرُ: يَا رَسُولَ اللهِ، كَانَ لِي دِينَارٌ، فَتَصَدَّقْتُ بِعُشْرِهِ، قَالَ: فَقَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «كُلُّكُمْ فِي الْأَجْرِ سَوَاءٌ، كُلُّكُمْ تَصَدَّقَ بِعُشْرِ مَالِهِ»، ففي هذا الموقف دليل على أن العبرة ليست بكثرة المال بل بالحرص على الإنفاق، وفيه تأكيد على التسوية بين من أنفق عشرة دنانير ومن أنفق عُشرَ دينار، لأنهم أنفقوا عُشر ما يملكون.

6- الصدقة بالقليل تحصل الأجر الجزيل:

روى البخاري في صحيحه عن ‌عَدِيّ بْن حَاتِمٍ قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: «اتَّقُوا النَّارَ ‌وَلَوْ ‌بِشِقِّ ‌تَمْرَةٍ»، قال ابن بطال: فيه حض على الصدقة بالقليل، وقد تصدقت السيدة عائشة رضي الله عنها بتمرة، وتصدقت بحبة عنب، وقالت: كم فيها من ‌مثاقيل ‌الذر، واستناداً إلى قوله تعالى: (فَمَنْ يَعْمَلْ ‌مِثْقَالَ ‌ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ) (الزلزلة: 7).

وفي سنن أبي داود عَنْ ‌أَبِي جُرَيٍّ جَابِرِ بْنِ سُلَيْمٍ قَالَ: قال رَسُول اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «لَا ‌تَحْقِرَنَّ ‌شَيْئًا ‌مِنَ ‌الْمَعْرُوفِ، وَأَنْ تُكَلِّمَ أَخَاكَ وَأَنْتَ مُنْبَسِطٌ إِلَيْهِ وَجْهُكَ إِنَّ ذَلِكَ مِنَ الْمَعْرُوفِ»، وفي مسند أحمد عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللهِ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «كُلُّ مَعْرُوفٍ صَدَقَةٌ، وَإِنَّ مِنَ الْمَعْرُوفِ أَنْ تَلْقَى أَخَاكَ ‌بِوَجْهٍ ‌طَلْقٍ، وَأَنْ تُفْرِغَ مِنْ دَلْوِكَ فِي إِنَاءِ أَخِيكَ».

الرابط المختصر :

تابعنا

الرئيسية

مرئيات

العدد

ملفات خاصة

مدونة