جيل الصحابة

عثمان الثويني

24 يونيو 2025

284

ما بين قصص التنانين الخيالية، وأبطال الرسوم المتحركة ذوي القوى الخارقة، تتشكل ملامح الطفولة في عقول أبنائنا وبناتنا، فيتربى الجيل على تصورات مشوشة للبطولة، ويستقي قيمه من مصادر لا تمتُّ إلى مجده ولا تاريخه بصلة.

في خضم هذا الغزو الناعم للوعي، تطلّ علينا الحاجة الملحة لبعث سير الصحابة والتابعين في وجدان النشء؛ فهم القدوات الحقّة، وهم الذين نحتوا مجد هذه الأمة بدموعهم ودمائهم وركعاتهم وصبرهم، وهم الذين أحبهم الله ورضي عنهم.

تحبيب الأطفال والناشئة بسير الصحابة ليس ترفًا ثقافيًا، بل ضرورة تربوية وأمن وطني وهوياتي، فالأمة التي لا تعرف أبطالها الحقيقيين، سرعان ما تتلقف نماذج دخيلة تعبث بمفاهيمها وتنهش في جدار ثوابتها، وقد أدركت الأمم الحية هذا منذ قرون، فزرعت في عقول أطفالها أسماء قادتها وفلاسفتها ومخترعيها، حتى صار الطفل الأوروبي أو الأمريكي يعرف نابليون، وأينشتاين، وبيتهوفن، كما يعرف اسمه!

فكيف نغرس حب الصحابة في قلب الطفل؟ البداية تكون من البيت، من حضن الأم وقلب الأب، حين يُروى للطفل قبل نومه قصة عبدالله بن عمر في ورعه، أو خالد بن الوليد في صولاته، أو أسماء بنت أبي بكر في شجاعتها، فإن خياله يبدأ يعتاد على نماذج حقيقية ذات مضمون إيماني وأخلاقي، ولا بد أن تكون القصة عادة يومية، مثل وجبة العشاء، بل ألذ وأشهى، ويمكن للأهل أن يحفزوا أبناءهم على تمثيل القصص في مشاهد تمثيلية عائلية بسيطة، تعزز الفهم وتثبت القيم، ويكافأ الطفل حين يقتدي بالصحابي لا حين يحاكي بطل الرسوم.

ثم تأتي المدرسة، التي لا يكفي أن تحشو عقول الطلاب بأسماء تواريخ المعارك، بل عليها أن تروي المواقف بإحساس، وتربط بين حياة الصحابة وحياة الطفل، هل جربنا أن نُدرس سيرة مصعب بن عمير كتعبير عن التحول من حياة الترف إلى حياة الدعوة؟ هل رسمنا خطًا بيانيًا لمواقف عمر بن الخطاب في العدل وربطناها بما يراه الطالب في العالم من صور متنوعة للظلم؟ هل أتحنا للطلاب أن يمثلوا خطب أبي بكر أو وصايا عليّ؟

أما وسائل التواصل الاجتماعي، فهنا المعركة الأشد وقعًا، يجب أن ننتج محتوى مرئيًا جذابًا عن سير الصحابة، في مقاطع قصيرة تحمل عبارات مأثورة، ورسائل وجدانية، وصورًا درامية دون أن تبتذل أو تُسطح، ولْيكن لدينا تحديات ومسابقات رقمية: «من يشبهك من الصحابة؟» أو «مواقف عظيمة في دقيقة»، نعيد بها تصدير المضمون التربوي بروح العصر ولغة المنصة.

وفي خضم ذلك كله، لا بد أن نُعيد النظر في الطريقة التي نقدم بها الصحابة، فهم ليسوا فقط أسماء في كتب السيرة، بل نماذج إنسانية كاملة، الصحابي هو من أحبّ النبي صلى الله عليه وسلم وبايعه وصدّقه وجاهد بين يديه، منهم القائد والفقيه، ومنهم الشاعر والتاجر، ومنهم المسنّ والشاب، بل حتى الطفل، يجب أن نقدمهم على أنهم أناس مثلنا، لكنهم صدقوا فسبقوا، وعملوا فصاروا تاريخًا يُروى.

ثم يأتي دور العلماء والمربين في التأصيل لهذا المسار؛ فالصحابة خير قرون الأمة، والتأسي بهم داخل في عموم قوله تعالى: (لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ) (الأحزاب: 21)، وقد قال الإمام مالك: «أول هذه الأمة على الهدى، ولن يصلح آخرها إلا بما صلح به أولها».

إن الأمة التي تنشئ أبناءها على حب الصحابة، إنما تغرس فيهم معاني الولاء والانتماء، وتضعهم على أول طريق الريادة، فجيل الصحابة ليس ماضياً يُحكى، بل مشروعًا يُبعث، وأمة تُصنع، وطريقًا نحو التمكين، فليكن لكل بيت فينا «بطل من الصحابة»، نُحدث أبناءنا عنه، ونعيش سيرته، ونربط اسمه بدعائنا اليومي، عسى أن نكون ممن قال فيهم النبي صلى الله عليه وسلم: «المرء مع من أحب».

فهل نبدأ اليوم في صناعة هذا الجيل؟


تابعنا

الرئيسية

مرئيات

العدد

ملفات خاصة

مدونة