جيل الوظائف المرنة يغيّر خريطة العمل

في تقرير لوزارة الموارد البشرية
السعودية صدر مطلع العام الجاري (2025م)، كُشف أن عدد السعوديين المسجلين رسميًا
في منصات العمل الحر تخطى مليونًا و200 ألف شاب وشابة.
وفي الإمارات، أعلن «مركز دبي للإحصاء»
أن ربع القوى العاملة باتت تعتمد على أنماط العمل المرن أو عن بُعد.
هذه الأرقام لم تعد مجرد إشارات متناثرة،
بل أضحت سطحاً ساخناً يفرض نفسه على الأسر الخليجية، ويؤكد أن هناك جيلاً كاملاً
يكتب تعريفًا جديدًا للوظيفة.
فلم يعد العمل يعني مكاتب زجاجية ودوامًا
من الثامنة صباحاً إلى الرابعة مساء، بل صار يعني لابتوب، ومقهى مفتوح 24 ساعة،
وزبائن في قارات بعيدة.
في المقابل، يكمن خلف هذه الصورة البراقة
قلق أسر على مستقبل أبنائهم: هل هذا عمل حقيقي؟ وهل يضمن مستقبلًا كما يعرفونه هم؟
تطلعات شبابية
يرى الاقتصادي الإماراتي د. راشد المهيري
أن هذا التحوّل ليس موجة عابرة، وإنما اتجاه إستراتيجي مدفوع بثلاث قوى:
التكنولوجيا، والعولمة، وتطلعات الشباب للحرية، بحسب تصريحاته لصحيفة «الاتحاد»
الإماراتية.
وتشير دراسة صادرة عن جامعة الكويت، عام
2024م، إلى أن 57% من طلاب الجامعات يفضّلون تأسيس مشروعهم الشخصي بدل انتظار
وظيفة حكومية.
أما في قطر، فقد كشفت وزارة العمل أن
متوسط أعمار الملتحقين بالعمل الحر بين 22 و29 عامًا؛ وهو ما يعكس انخراط جيل
الشباب مباشرة في سوق التوظيف الخاص.
السؤال الكاشف ربما يكون عن سبب الاختيار،
فلماذا يختار الشباب هذا النمط من العمل؟!
الإجابة تتضمن عدداً من المحددات دفعت
شباب الألفية الثانية للتفكير بهذه الطريقة، أهمها:
1- الحرية والوقت:
تقول المستشارة الأسرية السعودية د. نورة
العتيبي، في ندوة بعنوان «الأسرة الخليجية والتحولات الحديثة»، عقدت مطلع العام
الجاري: إن الشباب اليوم لا يقبلون أن يكون وقتهم مرهونًا ببطاقة حضور وانصراف؛
الحرية أصبحت قيمة حياتية لا رفاهية.
2- الطموح المالي:
يشير الخبير الاقتصادي البحريني عبدالله
الشمري إلى أن متوسط دخل العاملين عن بُعد في مجالات التقنية يتجاوز ضعف الراتب
المبدئي للوظائف التقليدية.
3- إرث الجائحة:
تجربة تفشي جائحة كورونا في العالم، قبل
سنوات، أثبتت أن المؤسسات يمكن أن تدير أعمالها بالكامل عبر الإنترنت، فترسّخ لدى
الشباب أن البيت قد يكون مكتبًا عالميًا.
وهناك أسباب أخرى، أو فوائد يمكن أن
يجلبها العمل عن بُعد، منها تقليل التكاليف المرتبطة بالسفر والعمل من المكتب،
وملاءمة الظروف الشخصية بسبب مشكلات صحية، أو مسؤوليات رعاية، أو ديناميكيات
أسرية، كما أن العمل من المنزل يعزز الإنتاجية والتعاون، وفق دراسات حديثة.
الأسرة في قلب التحوّل
لكن الظاهرة ليست بلا أثمان، فداخل
البيوت ينشب أحيانًا صراع خفي بين جيلين؛ جيل الآباء الذين يعتبرون الوظيفة
الحكومية صمام أمان، وجيل الأبناء الذين يراهنون على المهارة والابتكار، لا على
الكرسي والمكتب.
هذا ما تؤكده الاستشارية التربوية
الإماراتية مها السويدي في مقابلة مع قناة «سكاي نيوز عربية»، مشيرة إلى أن الفجوة
الحقيقية ليست في الوظيفة، بل في لغة التواصل؛ الآباء لا يفهمون طبيعة الاقتصاد
الجديد، فيفسّرون المرونة باعتبارها فوضى.
ولهذا، أصبحت هناك آثار لهذا الصراع،
منها تغيّر مفهوم المسؤولية، حيث صار الشاب نفسه من يختار مصيره المهني، لا الأسرة
وحدها.
ومنها كذلك زيادة ساعات الانعزال بسبب
فروق التوقيت مع عملاء في الخارج، وفي المقابل هناك فرص أفضل للتقارب، وذلك بعد
عودة بعض الأبناء للعمل من المنزل عقب سنوات في مدن بعيدة.
لكن تقارير حديثة حول الوظائف الأساسية
التي يُتوقع أن تكون الأكثر راتبًا في عام 2025م، ضمت مهن المحاسبين، ومهندسي
البرمجيات، ومديري المشاريع، وممثلي خدمة العملاء، وممثلي تطوير المبيعات، وصانعي
المحتوى، ومصممي الجرافيك.. وغيرها، تُصنف باستمرار كأفضل أدوار عن بُعد.
وفي النهاية، فإن جيل الوظائف المرنة صار
حقيقة راسخة في الخليج، وفي غيره، وأصبحت المعركة الحقيقية ليست في رفضه أو قبوله،
بل في كيفية التكيّف معه.
وبالتالي، فعلى الأسر أن تعي أن الأمان
صار يعني المهارة لا الكرسي، وعلى الشباب أن يبرهنوا أن الحرية لا تعني فوضى.
وبين هذا وذاك، يكتب الجيل الجديد قصة
عمل مختلفة، قد تغيّر وجه المجتمع الخليجي لعقود قادمة.