حقوق الإنسان في العالم الإسلامي.. نظرة غربية


حقوق الإنسان ملف ضخم ومؤثر في الغرب وفي سياساته، له منظمات ومؤسسات بَنَتْ وجودَها عليه، وهي تتبناه وتنافح عنه في المحافل والمجالس الدولية، تمارَس باسمه ضغوط ٌوتُرسَم لأجله سياساتٌ وخطط، لكنه -شأنه شأن أغلب المنتجات الغربية- له نسختان؛ النسخة المحلية الموجهة إلى بلاد الغرب، والنسخة الخارجية الموجهة إلى سائر بلاد العالم.

ونظرة الغرب الشمولية التي ترى لنفسها الأستاذية المهيمنة على العالم فرضت نفسها على مجال حقوق الإنسان، فالنخب الغربية ترى أن لها الحق في فرض ما تراه حقوقًا للإنسان على سائر العالم، وأن تضغط لإلغاء حقوق أخرى لا تتفق ورؤيتها،

والإشكالية أن هذه المفاهيم ومفاهيم أخرى مثل الديمقراطية، لا تزال تتفاعل وتتطور لتشمل أمورًا بعيدة عن معناها الأصلي، ولا تزال محل شكٍ ونزاعٍ حتى بلاد الغرب نفسها، فيما يراد فرضها على سائر بلاد الله دون نقاشٍ أو مراعاة لاختلاف البيئات والمجتمعات

هذا لا يعني أن الغرب خالٍ من مدافعين صادقين عن حقوق الإنسان، فقد أثبتت السنوات الماضية وجود تيارٍ من النشطاء المدافعين عن حقوق الإنسان مع احترام هويته ومعتقداته، ودون أي رغبة في تغييره وإعادة تشكيله، وهؤلاء ينتقدون بجرأةٍ مواقفَ الحكومات والنخب الغربية في نظرتها الفوقية إلى الإنسان المختلف.

الربيع العربي

لا شك أن الرؤية الغربية لحقوق الإنسان تصادمت مع الرؤية الإسلامية في ملفات كثيرة قديمة وحديثة، وأهم ملف حديث هو «الربيع العربي»، حيث وقف الغرب في بداية هذا الحراك حائرًا في موقفه منه، وقد أبدى بعض التأييد له عندما بدا له أنه حراكٌ شبابي لا هوية أيديولوجية له، ثم لما ظهر أنه سيؤدي إلى انتخاب حكوماتٍ من التيار الذي يسميه الغرب بـ«الإسلام السياسي» تراجع ومد أيديه من جديد إلى الأنظمة الشمولية لإعادة الوضع إلى ما كان عليه، ولسنواتٍ طويلة راقب الغرب تلك الأنظمة الشمولية وهي تقمع شعوبها وتريق دمها في تآمر أحيانًا ولا مبالاة أحيانًا أخرى.

في الملف السوري، الذي كان الملف الأكثر دمويةً في حركة «الربيع العربي»، بقي المسلمون السُّنّة يُذبحون ويُشرّدون طوال سنوات على يد النظام الطائفي الأقلوي، دون أن يكون هناك اهتمام حقيقي بهم، وابتلع البحر والغابات آلافًا منهم في طريقهم إلى أوروبا، وفي أوروبا نالهم نصيب من الترهيب من أنصار اليمين المتطرف الذي صوّرهم غزاةً قادمين لاحتلال القارة العجوز وتغيير بنيتها السكانية.

والجانب الآخر من هذه الصور كان مئات النشطاء الإعلاميين الغربيين ذوي التوجهات القومية والشعبوية، الذين كانوا يروجون روايات الأنظمة الطائفية للجمهور الغربي ويسعون إلى تبرئتها بعد كل جريمة ترتكبها، فبعد حوادث قصف المناطق المعارضة بالغاز السام في سورية، على سبيل المثال، كانت البروباغندا الغربية تنطلق بدايةً للتشكيك في الحادثة من أصلها، ثم للتشكيك فيمن ارتكبها وفي عدد ضحاياها، في عملية مدروسة تستمر حتى يملّ الجمهور ويبرد الخبر وتُنسى الحادثة.

ومع سقوط النظام السوري، استفاقت منظمات حقوق الإنسان الغربية، وبدأت تركز على كل كبيرة وصغيرة، وظهرت في الإعلام الغربي شعارات حماية الأقليات الطائفية والقومية من النظام الجديد ومن السُّنّة عمومًا، وتحوّل كل حادث دموي إلى «محاولة لمحو الأقليات»، فأحداث الساحل السوري في مارس الماضي صُورت على أنها مذابح بحق العلويين والمسيحيين والأقليات، حتى إن الإعلام الغربي زعم أن هذه الأحداث هي محاولة لإنهاء المسيحيين في سورية، مع أن المسيحيين لا علاقة لهم بها أصلاً.

والنظرة الحقوقية الغربية إلى المنطقة العربية والمسلمة لا تتردد في تأييدها لتقسيم أي دولة عربية أو مسلمة لحماية الأقليات، فبعد سقوط النظام السوري وظهور أقليات الساحل والسويداء والشمال، برزت نظريات مؤيدة لتقسيم سورية إلى عدة دويلات بهدف حماية الأقليات، مع الحرص على وصف السُّنّة بأنهم الطائفة المتطرفة والمعتدية على غيرها من الأقليات المسالمة.

الحرب على غزة

الأمر نفسه ينطبق على الحرب في غزة، فبعد هجوم المقاومة على المستعمرات المحيطة بغزة، قامت حملة عالمية قوامها المنظمات المدعومة من الكيان وداعميه، وأطلقت عشرات الأكاذيب بحدوث عمليات قتل أطفال واغتصاب نساء وتعذيب للمستوطنين على أيدي المقاومين، ورغم أن كثيرًا من تلك المزاعم ظهر لاحقًا أنه ملفق، فما تزال وسائل الإعلام الغربية ترددها ليلاً نهارًا.

في المقابل، تصل أخبار قتل آلاف الفلسطينيين إلى شاشات الإعلام الغربي باردة خامدة لا تحرك ساكنًا ويجري التشكيك فيها والتشكيك بمن قام بها، كما جرى في الملف السوري تمامًا.

ما ذكرنا بشأن سورية وغزة يؤكد أن ثمة تناغمًا واضحًا بين التغطية الإعلامية الانتقائية لما يجري في بلادنا، والنظرة الحقوقية الانتقائية نحو المكونات الدينية والعرقية للمجتمعات العربية والإسلامية، فالمسلمون السُّنّة الذين يشكلون غالبية واضحة في العالم العربي، متهمون دومًا بالتطرف والتعصب واضطهاد الأقليات، وصولاً إلى الإرهاب، في المقابل الأقليات الدينية والقومية هي دومًا مظلومة ومضطهدة وتستحق العون والحماية، ولو أدى ذلك إلى تقسيم البلاد وتهجير أهلها منها.

ملف آخر جرى فيه صدامٌ بين الرؤية الغربية والرؤية الإسلامية لحقوق الإنسان، كان ملف كأس العالم في قطر في ديسمبر 2022م، فبسبب مكايدات سياسية ونظرة غربية متعجرفة، تحول هذا الموسم الرياضي العالمي إلى مجال شدٍّ وجذب بين الدولة المضيفة وبعض الفرق الغربية التي أرادت فرضَ قيمٍ معينة –هي أصلاً محلُ تنازعٍ في بلادها– على الموسم الرياضي، مثل فرض شعارات الشذوذ الجنسي والسماح بشرب الخمور، وقد وقفت السلطات في وجه هؤلاء بحزم دون إعطاء الموضوع أبعادًا كبيرة، ليظهر للعالم أنه يمكن الجمع بين حدث رياضي ناجح وممتع، والقيم الأخلاقية والدينية لشعوب المنطقة.

دعم النسوية والإجهاض والشذوذ الجنسي

وفي الإطار ذاته، تضغط منظمات غربية كثيرة ومنظمات أممية تتبنى النظرة الغربية لحقوق الإنسان، لفرض أجندات ثقافية ومجتمعية غربية على المجتمعات الشرقية، ويُلاحَظ زيادةُ عدد المنظمات النسوية التي تتبنى بشكل منهجي عملية توتير العلاقات بين الرجال والنساء في العالم العربي والإسلامي، والسعي إلى إقناع النساء المسلمات بالأجندة الغربية التي تتبنى الإجهاض من غير أي ضوابط، وتجعل العلاقات الزوجية حربًا لا هوادة فيها بين الجنسين، مع السعي إلى رفع سن الزواج الشرعي وإطلاق الحرية للعلاقات المحرّمة، إضافة إلى محاولة فرض الشذوذ الجنسي كفكرة مقبولة اجتماعيًا وثقافيًا، وإعطاء حقوق وامتيازات لهذه الفئة، أسوةً بما يحدث في بلاد الغرب.

النظرة الغربية لحقوق الإنسان طالت كذلك المؤسسات الداعمة للاجئين في الغرب، إذ تتلقى هجماتٍ من اليمين المتطرف ومن الحكومات اليمينية، وتتعرض لاتهامات بتعريض السيادة الوطنية للخطر بسبب الهجرة ودخول غرباءَ إلى الأراضي الأوروبية، ففي بلد مثل اليونان، وجهت السلطات اليمينية اتهاماتٍ إلى نشطاء ومنظمات ساعدت اللاجئين في الوصول إلى شواطئ الجزر، بتهمة تهريب البشر، وعُطّل عمل تلك الجمعيات، إضافة إلى حملات إعلامية على اللاجئين وتوجيه تهمٍ مختلفة إليهم بوجود متطرفين بينهم وتهم أخرى كثيرة.

خلاصة القول: ستبقى حقوق الإنسان ملفًا شائكًا وغير متفق عليه بين الشرق والغرب، وستبقى أداةَ تدخلٍ للغرب في شؤون دول العالمين العربي والإسلامي، ما لم تكتسب تلك الدول استقلالها وشخصيتها المستمدة من عقيدتها وتاريخها وحضارتها، وتضع تصورها المستقل لحقوق الإنسان الذي لا يقبل تدخلاً من أي طرف محلي أو دولي.


اقرأ أيضاً:

حقوق الإنسان في الحضارة الإسلامية

تجويع قطاع غزة جريمة ضد الإنسانية

البشرية على شفا منعرج خطير في مجال حقوق الإنسان!

الرابط المختصر :

تابعنا

الرئيسية

مرئيات

العدد

ملفات خاصة

مدونة