حقوق المرأة في عهد النبوة.. تكريم وحماية

في زمن لم يكن
للمرأة فيه ما يسمى بالحقوق، بل كانت مجرد متاع، وشيء من الأشياء التي تورث مع
أشياء الرجل وحاجياته إذا مات، وأُم في حال إنجاب الأنثى، فتصير بلوى ومعاناة وعاراً
يجب أن يتوارى منه أبوها، يقول فيهم الله تعالى: (وَإِذَا بُشِّرَ أَحَدُهُمْ بِالأُنثَى
ظَلَّ وَجْهُهُ مُسْوَدّاً وَهُوَ كَظِيمٌ {58} يَتَوَارَى مِنَ الْقَوْمِ مِن
سُوءِ مَا بُشِّرَ بِهِ أَيُمْسِكُهُ عَلَى هُونٍ أَمْ يَدُسُّهُ فِي التُّرَابِ
أَلاَ سَاء مَا يَحْكُمُونَ) (النحل).
وبالرغم من أن
هناك نساء حظيت بمكانة سامية وسط المجتمع الجاهلي مثل خديجة بنت خويلد رضي الله
عنها، فإن ذلك ظل الاستثناء لا الأصل، وظلت المرأة بلا حقوق حتى أتى الإسلام لتقف
المرأة بجوار الرجل سواء بسواء، تحمل الرسالة مثله، وترث وتتاجر وتتصرف في مالها
بحرية دون وصاية منه، وتخيّر في الزواج ولا يجوز إجبارها، وتذهب للمساجد لتنال
العلم على يد نبي الأمة صلى الله عليه وسلم، ثم الصحابة والتابعين من بعده.
فقد شكّلت بعثة
النبي صلى الله عليه وسلم نقطة تحوّل جوهرية في وضع المرأة، حيث انتقلت من واقع التهميش
والاستضعاف في الجاهلية إلى واقع التكريم وإرساء الحقوق الشرعية والاجتماعية.
وقد حرص الإسلام
منذ نزوله على إعادة الاعتبار للمرأة باعتبارها شقيقة الرجل في التكليف والمسؤولية،
والبحث في حقوق المرأة في العهد النبوي يكشف الأسس التي أرساها الإسلام لحماية
مكانتها وصيانة كرامتها(1)، فإلى نماذج من الحقوق التي حصلت عليها
المرأة في فجر الإسلام:
أولاً: الحق في الوجود وحفظ كرامتها وإنسانيتها:
كان أبشع ما
تتعرض له المرأة في الجاهلية قتلها بمجرد أن تأتي للحياة دون ذنب أو جريرة؛ وذلك
لمجرد كونها فتاة؛ بدعوى الخوف من العار أو الفقر أو السبي، فأتى نور الإسلام
ليبطل هذه الجريمة الإنسانية خاصة بين الفقراء والقبائل الضعيفة، ويجعل الحياة حقاً
لكل مولود غير الحقوق الأخرى؛ يقول تعالى: (وَإِذَا الْمَوْؤُودَةُ سُئِلَتْ {8} بِأَيِّ ذَنبٍ
قُتِلَتْ) (التكوير).
وفي الأحاديث
النبوية ما يشيد بفضل تربية البنات وما ينتظر آباءهن من أجر عظيم حين يحسن إليهن
ويختصهن بفضله، وأنهن باب عظيم من أبواب الجنة، فيقول النبي صلى الله عليه وسلم: «من
ابتلي من هذه البنات بشيء فأحسن إليهن كن له ستراً من النار» (رواه البخاري،
ومسلم)، وفي البخاري قال صلَّى الله عليه وسلَّم: «مَن كان له ثلاث بنات
يُؤويهُنَّ، ويَكْفِيهنَّ، ويَرحمُهنَّ، فقد وجبتْ له الجنة»، فقال رجل مِن القوم:
وثِنتين يا رسول الله؟ قال: «وثنتين».
وتروي أمُّ
المؤمنين عائشة رضي الله عنها شيئًا من عطف النبي صلى الله عليه وسلم وحسن تعامله
مع إحدى بنياته، فتقول: «ما رأيت أحداً كان أشبه سمتاً ودلاً وهدياً برسول الله
صلى الله عليه وسلم من فاطمة رضي الله عنها، كان إذا دخلت عليه، قام إليها، فأخذ
بيدها وقبَّلها، وأجْلسَها مجلسَه، وكان إذا دخل عليها قامتْ إليه، فأخذتْ بيده،
فقبَّلتْه وأجلستْه في مجلسها» (أخرجه أبو داود).
ثانياً: الحق في الميراث والذمة المالية المستقلة:
وبعد أن كانت
المرأة ضمن إرث الرجل، فقد صارت وارثة، لها حقوق معلومة ومذكورة في كتاب الله بدقة
وتفصيل لا يجوز معه إغفال هذه الحقوق أو التلاعب بها، يقول تعالى: (لِلرِّجَالِ نَصِيبٌ مِمَّا تَرَكَ
الْوَالِدَانِ وَالْأَقْرَبُونَ وَلِلنِّسَاءِ نَصِيبٌ) (النساء: 7)، كما
أعطاها حقها في التملك والتصرف في مالها سواء كسبته عن طريق العمل أو الميراث دون
وصاية من زوجها أو وليها، يقول تعالى: (وَآتُوا النِّسَاءَ صَدُقَاتِهِنَّ نِحْلَةً) (النساء: 4)(2).
كما ألغى
الإسلام جميع ما يخص المرأة خاصة في مسألة الميراث، فيقول تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا
لَا يَحِلُّ لَكُمْ أَن تَرِثُوا النِّسَاءَ كَرْهًا وَلَا تَعْضُلُوهُنَّ
لِتَذْهَبُوا بِبَعْضِ مَا آتَيْتُمُوهُنَّ) (النساء: 19)، وقال تعالى: (لِّلرِّجَالِ نَصِيبٌ مِّمَّا
اكْتَسَبُوا وَلِلنِّسَاءِ نَصِيبٌ مِّمَّا اكْتَسَبْنَ وَاسْأَلُوا اللَّهَ مِن
فَضْلِهِ إِنَّ اللَّهَ كَانَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمًا) (النساء: 32)، كما
جعلها النبي صلى الله عليه وسلم: «إِنَّ النِّسَاءَ شَقَائِقُ الرِّجَالِ» (أخرجه
أبو داود).
ثالثاً: الحق في التعليم والتثقيف:
الإسلام دين
العلم، فأول آية نزلت من القرآن، تأمر بالقراءة التي هي مفتاح العلوم، والعلم
دائماً يسبق العمل، وهناك آيات وأحاديث كثيرة ترغب في طلب العلم وتحث عليه، من ذلك
قوله تعالى: (وَقُلْ رَبِّ
زِدْنِي عِلْماً) (طـه: 114)، وقوله تعالى: (قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ
لا يَعْلَمُونَ إِنَّمَا يَتَذَكَّرُ أُولُو الْأَلْبَابِ) (الزمر:9)،
وقوله تعالى: (يَرْفَعِ
اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجَات) (المجادلة:11)..
وغيرها من الآيات الكثيرة.
ولم يحصر
الإسلام العلم على الرجال، بل جعله تكليفاً شرعياً للجميع: «طلب العلم فريضة على
كل مسلم» (سنن ابن ماجه، 224)، وقد خصص النبي صلى الله عليه وسلم يوماً للنساء
ليعلّمهن أمور الدين، وهو ما يدل على حقهن في التثقيف والتعلم، كما اشتهرت
الصحابيات بالعلم مثل السيدة عائشة رضي الله عنها التي كانت مرجعاً في الفقه
والحديث(3).
رابعاً: الحق في اختيار الزوج:
أقر النبي صلى
الله عليه وسلم حق المرأة في القبول أو الرفض عند الزواج، فقال: «الأيم أحق بنفسها
من وليها، والبكر تُستأذن في نفسها» (صحيح مسلم)، كما حرص الإسلام على ألا تكره
على الزواج، وأن يكون رأيها معتبراً في هذا الأمر، فعن خنساء بنت خدام الأنصارية
أن أباها زوجها وهي ثيب فكرهت ذلك فأتت النبي صلى الله عليه وسلم فرد نكاحه. (صحيح
البخاري).
خامساً: الحقوق الزوجية والمعاملة بالمعروف:
العلاقات الخاصة
بين الزوج والزوجة نظمها الدستور القرآني كي يضمن حق المرأة في حياة كريمة، فشرع
نظاماً متوازناً للحياة الزوجية تقوم على المودة والرحمة، وذلك في قوله تعالى: (وَعَاشِرُوهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ) (النساء:
19)، وقال النبي صلى الله عليه وسلم: «خيركم خيركم لأهله، وأنا خيركم
لأهلي» (سنن الترمذي).
سادساً: الحق في المشاركة الاجتماعية والسياسية:
والمرأة في
الإسلام ليست في سجن أو في معزل عن الحياة العامة، بل لقد شاركت في فجر الرسالة في
بناء تلك الأمة منذ نشأتها، فها هي السيدة خديجة تكون أول من أسلم من البشر على يد
نبي الأمة، وها هي سمية بنت خياط تكون أول شهيدة، وها هي أسماء بنت أبي بكر تشارك
في أهم حدث في الإسلام وهو الهجرة من مكة إلى يثرب، فتحمل الطعام وتستأمن على سر
الرحلة وتذهب به إلى غار ثور، وها هي تبايع في بيعة العقبة الأولى والثانية على
حمل رسالة الإسلام وحماية النبي صلى الله عليه وسلم، ثم تبايع على الدين وينزل
فيها قرآن يتلى: (يَا
أَيُّهَا النَّبِيُّ إِذَا جَاءَكَ الْمُؤْمِنَاتُ يُبَايِعْنَكَ) (الممتحنة: 12).
كما شاركت
الصحابيات في الغزوات ولم يستنكر عليها النبي صلى الله عليه وسلم خروجها، وأبرز
مثال عن ذلك أم عمارة نسيبة بنت كعب التي دافعت عن النبي صلى الله عليه وسلم يوم «أحد»(4).
لقد أرسى النبي
صلى الله عليه وسلم من خلال النصوص القرآنية والسيرة النبوية منظومة حقوقية شاملة للمرأة بدءاً من الحياة الكريمة التي يرتضيها الله عز وجل لعباده، مروراً بالحقوق
الأسرية والمالية والتعليمية، وصولاً إلى المشاركة السياسية والاجتماعية، وقد أسس
ذلك لوعي جديد في خاطر الأمة على مدار فترات تقدمها، وشكلت مجموعة الحقوق تلك نقلة
حضارية عالمية.
__________________
(1) السيرة
النبوية لابن هشام، ج 1، بتصرف.
(2) الجامع
لأحكام القرآن للقرطبي، ابن سعد في الطبقات الكبرى.
(3) الطبقات
الكبرى لابن سعد.
(4) السيرة
النبوية لابن هشام، ج3، والطبقات الكبرى لابن سعد.