حكم إلقاء المصحف في البحر.. فتوى فقهية لصيانة كلام الله عند الضرورة

د. مسعود صبري

06 أكتوبر 2025

294

قام أتراك مشاركون في «أسطول الصمود» الذي قصد الوصول إلى شواطئ غزة لكسر الحصار عن أهلها بإلقاء المصاحف في البحر، وذلك عند اقتراب سفن الكيان الصهيوني منهم؛ وذلك خشية وقوع المصحف في يد الصهاينة الذين لا يكترثون لحرمته، وربما قاموا بتدنيسه وإهانته.

وجوب صيانة المصحف 

والأصل الواجب على المسلم صيانة المصحف وتوقيره، ومن ذلك جاء النهي عن السفر بالمصحف إلى أرض العدو الكافر؛ مخافة أن يهينه أو يدنسه، واستدل الفقهاء بما ورد عن ابن عمر رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لا تسافروا بالقرآن؛ فإني لا آمن أن يناله العدو»، وفي رواية: «فإني أخاف..»، وفي حديث سفيان وحديث الضحاك بن عثمان: «مخافة أن يناله العدو» (رواه مسلم).

ولهذا، حكى ابن عبدالبر من فقهاء المالكية الإجماع على أنه لا يسافر بالمصحف في السرايا والعسكر الضعيف المخوف عليه، وعليه ذهبت المذاهب الأربعة الحنفية والمالكية والشافعية والحنابلة إلى أنه لا يجوز للمسلم السفر بالمصحف إلى بلد العدو الكافر إن كان يغلب على الظن إهانتهم للمصحف.

أما إن كان المسلم يأمن في سفره على المصحف من الإهانة؛ فذهب الحنفية إلى الجواز، وبخاصة إن كان دخل بلاد غير المسلمين بأمان، وأفتى المالكية بالحرمة؛ استناداً لنص الحديث السابق.

حكم إلقاء المصحف في البحر وأوجه النهي فيه

على أن إلقاء المصحف في البحر منهي عنه في الأصل؛ لأنه من إهانة المصحف، وليس من شأن المصحف أن يلقى في البحر؛ لأنه ليس مكاناً يحترم فيه المصحف، والواجب احترام المصحف وتقديره.

وهنا تعارض نهيان؛ الأول: السفر بالمصحف إلى مكان فيه عدو لا يحترم المصحف، كما هو الشأن في جيش الاحتلال الصهيوني، والثاني: إلقاء المصحف في البحر؛ لما فيه من عدم توقير المصحف.

والأصل الابتعاد عن النهيين ما أمكن، فإن أمكن عدم وقوع المصحف في يد العدو وألا يلقى في البحر كان هذا واجباً.

وإن تعارض الأمران، وكان لا بد من واحد منهما، فيمكن النظر في النهيين على النحو التالي:

1- أن علة النهي عدم توقير المصحف الشريف، وهي متحققة أكثر في سقوط المصحف في يد الصهاينة، وإلقاء المصحف في البحر وإن كان أمراً منهياً عنه في الأصل، إلا أنه ليس في معنى الإهانة الموجودة في سقوط المصحف في يد جيش الاحتلال الصهيوني.

2- أن النهي عن سقوط المصحف في يد العدو الكافر أقوى من النهي في إلقاء المصحف في البحر؛ لأن الأول محكي فيه الإجماع، كما حكاه ابن عبدالبر، والنهي عن إلقاء المصحف في البحر ليس فيه إجماع.

3- أن إهانة المصحف في يد الاحتلال الصهيوني إهانة على سبيل القطع، وعدم توقير المصحف بإلقائه في البحر يعد إهانة على سبيل الظن، والقطع مقدم على الظن.

4- أن النهي عن وصول المصحف في يد العدو الكافر من الصهاينة فيه نص، فالحكم فيه مستند إلى نص، والنهي عن إلقاء المصحف في البحر ليس فيه نص، بل هو اجتهاد، فالدليل فيه عقلي، والدليل النقلي مقدم على الدليل العقلي.

5- أن النية في الأمرين مختلفة، ففي إلقاء المصحف في البحر نية عدم تعرضه وسقوطه في يد الكيان الصهيوني الكافر، وما يترتب عليه من إهانة محققة للمصحف، وفي الحديث: «إنما الأعمال بالنيات» (رواه البخاري).

6- أن أصل الحكم حفظ المصحف من الإهانة والتدنيس، وإلقاء المصحف في البحر قبيل اقتراب جيش الكيان الصهيوني هو من سبيل هذا القصد، والأمور بمقاصدها.

7- أنه عند حصول ضررين؛ فإنه يحتمل الضرر الأصغر في مقابل الضرر الأكبر، والضرر الأكبر وقوع المصحف في يد العدو الكافر، والضرر الأصغر هو إلقاؤه في البحر، وقد نص الفقهاء في قواعدهم: «إذا تعارض مفسدتان؛ روعي أعظمهما ضرراً بارتكاب أخفهما»، وفي صياغة أخرى للقاعدة: «إذا تعارضت مفسدتان؛ دفع أعلاهما بارتكاب أخفهما».

8- أنه عند التعارض يقدم إلقاء المصحف في البحر على وقوعه في يد العدو الكافر؛ قياساً على القول بجواز التحريق عند من قال به من الفقهاء، وفي البخاري أن الصحابة حرقت المصاحف لما جمعوه، ويستدل لذلك أيضاً أنه مذهب طاووس، وكان يقول: الماء والنار خلق من خلق الله.

شروط جواز إلقاء المصحف في البحر عند الضرورة

وعليه، فإن ما فعله بعض النشطاء في «أسطول الصمود» من إلقاء المصحف في البحر خشية تدنيس المصحف في يد العدو جائز بشروط:

1- أن يغلب على الظن وقوع المصحف في يد الكيان الصهيوني الكافر، وأنهم سيهينون المصحف.

2- ألا توجد وسيلة أخرى لحفظ المصحف غير إلقائه في البحر.

3- أن يتأخر هذا الفعل حتى يوجد الداعي له، وألا يتسارع إلى إلقاء المصحف في البحر بلا داع.

4- أن القول بالجواز هنا هو من باب ارتكاب أخف الضررين وليس الفعل مباحاً في الأصل.

الرابط المختصر :

تابعنا

الرئيسية

مرئيات

العدد

ملفات خاصة

مدونة