حياة المسلم.. بين المحن وسوء التدبير

خلق الله الإنسان ليكون خليفته على الأرض، وجعل الغاية العظمى
من خلقه هو عمارة الأرض والتمكين لدين الله فيها، ولكي تتحقق تلك الغاية كان لزاما
أن تمر حياة الإنسان بسلسلة من المحن والابتلاءات للتمحيص والتهيئة، يقول تعالى: (أَحَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا أَنْ يَقُولُوا آمَنَّا
وَهُمْ لا يُفْتَنُونَ) (العنكبوت: 1).
المفهوم اللغوي للمحنة
يشير مصطلح "المحنة" في اللغة إلى فترة قاسية أو
اختبار صعب يواجهه الشخص في أي جانب من جوانب حياته، دون أن يكون مسؤولا عنه.
أما مصطلح المحن في الإسلام فيقصد به الابتلاء، ويكون بمثابة
الاختبار والتمحيص للإنسان، وفي الغالب يكون له تأثير إيجابي عليه، حيث يتعلم منه
الصبر والعزيمة ورباطة الجأش، كما أنه يقوي علاقة الإنسان بربه ويجعله أكثر رضا
ويقينا في أقدار الله، ومن أمثلة المحن: الحروب، المرض، الفقر، أو الفقد وغيرها.
أما سوء التدبير فهو من فعل البشر، وينتج عن أفعال وقرارات
خاطئة يتبعها أحداث مؤلمة للإنسان تؤثر سلبا على حياته، كالإفلاس، الفشل في العمل،
الرسوب والإدمان وغيرها.
مواقف من التاريخ
إن قصة نبي الله موسى، عليه السلام، والرجل الصالح هو النموذج
الأمثل في التاريخ الذي كشف لنا أن أقدار الله كلها خير، وإن بدا لنا غير ذلك، وأن
خلف كل محنة تكمن منح ربانية رائعة.
فخرق السفينة للمساكين الذين يعملون في البحر لم يكن لإغراقهم
أو إفقارهم بل لنجاتهم وحماية مصدر رزقهم من الضياع، وكذا فإن قتل الغلام لم يكن
حدثا قاسيا بل هو عين الرحمة للغلام ولوالديه، فقتل الغلام رحم والديه من ابن عاص
سيرهقهما طغيانا وكفرا، كما حمى الغلام من أن يكون مآله جهنم وبئس المصير، وضمن له
الجنة بقتله في تلك السن الصغيرة، وزادت رحمة الله وفضله بأن عوض والديه بابن بار
بهما وأكثر رحمة.
أما بناء الجدار في القرية البخيلة فلم يكن إكراما لأهلها
البخلاء، بل حماية لكنز يتيمين يعيشان وسط هؤلاء القساة، وذلك بفضل صلاح والديهما.
اقرأ أيضاً: كيف نتعلم الثبات
في المحن؟
ننتقل للنقيض على الجانب الآخر ألا وهو سوء تدبير البشر
ليتجلى موقف الرماة يوم غزوة أحد، حيث إن رسول الله، صلى الله عليه وسلم، جمع
الرماة يوم أحد واختار منهم خمسين رامياً، وأمّر عليهم عبد الله بن جبير، وجعلهم
على جبل يُقال له "عينيْن" يقابل جبل أحد، وقال لعبد الله بن جبير: "انضح
عنا الخيل بالنبل، لا يأتوننا من خلفنا، إن كانت لنا أو علينا فاثبت مكانك لا
نؤتين من قِبَلِك"، ثم قال للرماة: "إن رأيتمونا تخطفنا الطير فلا
تبرحوا مكانكم هذا حتى أرسل إليكم، وإن رأيتمونا هزمنا القوم ووطأناهم، فلا تبرحوا
حتى أرسل إليكم" (رواه البخاري) .
وبينما كانت المعركة تسير لصالح جيش المسلمين، بدأ جيش
المشركين في التقهقر للخلف، وظن الرماة أن المعركة انتهت لصالحهم، ورأوا الغنائم
حولهم فنزلوا من الجبل طمعا في جمع الغنائم، وخالفوا بذلك أمر رسول الله، وما إن
رأى خالد بن الوليد هذا المشهد -ولم يكن أسلم بعد- حتى انقض عليهم من خلفهم
وحاصرهم وقتل وجرح الكثير من صحابة رسول الله، وحتى النبي، صلى الله عليه وسلم،
تعرض لإيذاء شديد في ذلك اليوم.
سوء التدبير
أحيانا تمر بحياتنا مواقف صعبة نعجز عن تفسيرها ولا ندرك أهي
ابتلاء رباني للتمحيص أم سوء تدبير من البشر، ولكي نستطيع التمييز بين المحن وسوء
التدبير نعرض عليكم علامات فارقة تساعدنا على التمييز بينهما.
أولاً: المحن تأتي بعد أن تبذل كل الجهد:
وتسعى بكل جهدك، ثم يأتي أمر صعب خارج عن
إرادتك، ليغير مجرى الأمور كلية لتسير في طريق غير الذي كنت تخطط له.
أما سوء التدبير فيأتي نتيجة التقاعس وعدم بذل الجهد الكافي
لتحقيق ما تتمنى، أو نتيجة لقرارات خاطئة لم تكن مدروسة جيدا، وفي النهاية هو سوء
تخطيط من الإنسان ونتيجة متوقعة لعدم السعي كما ينبغي.
ثانياً: المحن يقابلها الإنسان بالصبر والرضا بقضاء الله:
لأنه أدى ما عليه ثم شاءت إرادة الله غير ذلك، فلا سبيل سوى
الرضا والتسليم.
وفي المقابل فإن سوء التدبير يقابله الإنسان بالندم والشعور
بالذنب للتقصير وعدم بذل الجهد الكافي لتحقيق ما يصبو إليه.
ثالثاً: المحن تأتي بعد أن تصل لنهاية السعي والتخطيط والجهد:
امتثالاً لقول رسول الله، صلى الله عليه وسلم: "إِنْ قَامَتْ عَلَى
أَحَدِكُمُ الْقِيَامَةُ، وَفِي يَدِهِ فَسِيلَةٌ فَلْيَغْرِسْهَا"
أي أنك تقوم بالغرس وهذا هو دورك، أما الإنبات والثمر فهذا
يتم بمشيئة الله وقدرته، حتى ولو قامت القيامة وفني البشر جميعا.
أما سوء التدبير فيأتي نتيجة قلة السعي والتواكل، يأتي نتيجة
لسوء التخطيط، لذا النتيجة تكون محتومة بالفشل.
اقرأ أيضاً: إحياء العقل
المسلم في زمن المحنة.. أصول وآفاق
رابعاً: المحن تكون منحة ربانية:
لتمحيص العباد ورفع درجاتهم وتهيئتهم لمهام عظيمة تستوجب أن يعدهم الله لذلك، قال
صلى الله عليه وسلم: «إن عظم الجزاء مع عظم البلاء وإن الله إذا أحب قوماً ابتلاهم
فمن رضي فله الرضا ومن سخط فله السخط» (رواه الترمذي).
بينما يكون سوء التدبير هو عقاب رباني لعدم السعي بالقدر
الكافي في الدنيا، ويتبعه الشعور بالذنب لأن الإنسان لا يفارقه الشعور بالذنب
والتقصير.
سبل العلاج
أمرنا الله تبارك وتعالى بالسعي وجعل للساعين والعاملين
الأفضلية والتميز، يقول تعالى: (قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لا
يَعْلَمُونَ) (الزمر: 9).
لذا فمن واجب الإنسان السعي، أما النتيجة فهي هبة ربانية من
المولى عز وجل، لذا كان من واجب الإنسان أن يسعى لتصحيح المسار والبعد عن سوء
التدبير، وذلك بعدة أمور، أهمها:
أولاً: تحديد المشكلة مع نفسك:
تتمثل أولى خطوات العلاج أن تعترف بالخطأ، ولا تلقي المسؤولية
على غيرك، فالعلاج الصحيح لا بد أن يسبقه تشخيص للمشكلة ثم وضع خطوات العلاج.
ثانياً: وضع خطة العلاج:
بعد أن تدرك مشكلتك عليك أن تبدأ بالعلاج من خلال خطوات محددة
وواضحة، وعلاج نقاط القصور من قلة الخبرة أو ضعف المهارات أو نقص الموارد أو غيرها.
ثالثاً: وضع الأهداف وتصحيح المسار:
بعد أن يقف الإنسان عند مشكلته ويبدأ في العلاج يستطيع أن
يحدد نقاط قوته ومهاراته وينميها، ثم يضع لنفسه أهدافا قصيرة المدى يستطيع تحقيقها
خلال فترات قصيرة ويستطيع قياس مدى نجاحه وتقييم نفسه تقييما موضوعيا محايدا،
ويصحح مساره وفق ذلك التقييم ليضمن انتظام خطواته في الطريق الصحيح.
رابعاً: التوكل على الله:
بعد أن تؤدي ما عليك وتقيم نفسك تقييما موضوعيا تتأكد من
الأخذ بكل أسباب النجاح.. استمدَّ كل حولك من الله وتوكل عليه حق توكله وأنت موقن
أن النجاح أو الفشل هما تدبير رباني لا دخل لنا بهما، يقول تعالى: (وَنَبْلُوكُمْ بِالشَّرِّ وَالْخَيْرِ فِتْنَةً وَإِلَيْنَا
تُرْجَعُونَ) (الأنبياء: 35) .
وفي النهاية، من المؤكد أن التمييز بين المحنة وسوء التدبير
من الأمور الصعبة، ولكن من خلال النظر إلى السبب وراء الابتلاء أو المشكلة، وطريقة
تعامل الانسان معها، والجهد الذي قام به يمكنه التمييز بينهما، وكذا بتصحيح سوء
التدبير والأخذ بكل أسباب النجاح.
اقرأ أيضاً: المخرج من الفتن
عند اشتداد المحن.. قراءة في الواقع على ضوء السيرة النبوية