حين يصبح التافه قدوة!

في زمنٍ كانت
القدوة فيه معلمًا يربي، أو عالمًا يُفتي، أو شاعرًا يُلهب الحماسة، صارت القدوة
اليوم في عيون كثير من شباب الخليج نجمًا على «سناب شات» أو «تيك توك» يرقص أو
يستعرض يومياته الفارغة.
لم تعد الشهرة
مرتبطة بالإنجاز أو العلم أو الرسالة، بل صارت تُقاس بعدد المتابعين، ومقدار
التفاعل، وحجم الإعلانات.
هنا، تتشكل
ثقافة مقلقة؛ ثقافة «المشاهير» التي تصنع قدوات زائفة، وتعيد تشكيل وعي الأجيال،
وتحفر هوة سحيقة تدفن فيها قيماً ومبادئ لطالما ظلت تحكم مجتمعاتنا قروناً عديدة!
الأرقام تتحدث
تشير إحصائية
رسمية صادرة عن الهيئة العامة للإعلام المرئي والمسموع في السعودية، إلى أن حجم
سوق الإعلانات عبر مشاهير مواقع التواصل، عام 2023م تجاوز 1.3 مليار ريال سنويًا،
70% منها موجّه لفئة الشباب.
وفي الإمارات،
أظهرت دراسة صادرة عن جامعة الشارقة أن 60% من المراهقين يتابعون مشاهير «سناب شات»
بشكل يومي، ويعتبر ثلثهم أن هؤلاء المشاهير «قدوة» في طريقة اللبس أو أسلوب
الحياة.
أما في الكويت
وقطر، فكشفت تقارير صحفية عن أن بعض المؤثرين يحققون أرباحًا شهرية تفوق رواتب
الأطباء والمهندسين والمعلمين بعشرات المرات.
تحول خطير
هذه الأرقام
تكشف تحوّلًا خطيرًا، خلاصته أن القدوة لم تعد تُصنع في البيت أو المدرسة أو
المسجد، بل تُبنى على خوارزميات تطبيقات تروّج للأكثر إثارة، لا للأكثر قيمة.
هنا يثور سؤال
آخر، قد يراه البعض ساذجاً، لكن الغوص في إجابته يكشف عمق الصدمة: لماذا يتأثر
الشباب بالمشاهير؟
البداية دوماً
من اللعب على وتر الأحلام، فحلم الثراء السريع الذي يداعب جفون شاب في العشرينيات
حينما يرى مؤثرًا يشتري «فيراري»، أو «لامبورجيني» أو «روزرايز» أو غير ذلك من
موديلات السيارات الحديثة، باهظة الثمن، من أرباح الإعلانات، فيحلم أن يسلك الطريق
نفسه دون جهد علمي أو عملي.
أيضاً، فإن حلم
الشهرة والحضور المستمر، الذي يتمتع به المشاهير يداعب خيال شبابنا، يدخلون غرف
النوم عبر الهواتف ويتابعهم الملايين، بينما يغيب المربي الحقيقي، والداعية
القدوة، والعالم الذي يخدم البشرية.
هناك أسباب أخرى
تكشف عن تقصير دعوي في جذب هؤلاء الشباب، حيث إن مشاهير «السوشيال» يتحدثون لغة
قريبة من الشباب، على مستوى الطريقة، وعلى مستوى المفردات، يشاركون تفاصيلهم
اليومية، فيشعر المتابع أنهم أصدقاؤه.
وعلى مستوى
التقصير كذلك، فإن من أسباب تأثر الشباب بهؤلاء التافهين، ما يعيشونه من فراغ
قيمي، حيث المدرسة ضعيفة، والأسرة منهكة، والمساجد مؤممة، والشاب في هذه الحالة
أرض خصبة لأي قدوة بديلة.
غياب الموازنة
من جهته، يقول
د. أحمد العبد الله، أستاذ علم الاجتماع بجامعة الكويت، في تصريح صحفي: الخطر ليس
في وجود مشاهير تافهين، بل في غياب الموازنة بقدوات حقيقية تُبرز قيم العمل
والإنجاز، حين تختفي النماذج الإيجابية، يملأ الفراغَ أيُّ محتوى مهما كان فارغًا.
وفي دراسة
أجرتها مؤسسة الفكر العربي عام 2023م، جاء فيها أن 45% من الشباب الخليجي اعترفوا
بأنهم جرّبوا منتجًا أو تبنوا سلوكًا فقط لأن أحد المشاهير قام بترويجه؛ ما يعكس
حجم التأثير المباشر على أنماط الاستهلاك والقيم.
دعوات المقاطعة
على الجانب
لآخر، هناك شعاع نور في النفق المظلم، بدا جلياً من خلال قيام ناشطين في عُمان
بتدشين حملة بعنوان «إلغاء_متابعة_مشاهير_عمان»، داعين من خلالها إلى مقاطعة
المحتوى الذي يقدم نماذج سلبية تروج للتفاهة والاستهتار.
تشير الإحصاءات
إلى أن الحملة لاقت تفاعلًا واسعًا، حيث تجاوز عدد المشاركين فيها أكثر من 50 ألف
شخص في غضون أسبوع من إطلاقها.
وقد تم تداول
الوسم بشكل مكثف على منصات التواصل الاجتماعي؛ ما يعكس رغبة المجتمع في العودة إلى
القيم الأصيلة والابتعاد عن المحتوى الهابط.
وفد تضمنت
الحملة عدداً من المطالب تمثل خارطة طريق من أجل التغلب على أزمة المحتوى الهابط
الذي يتابعه شبابنا العربي.
ومن تلك المطالب
تنظيم الإعلانات والمحتوى الرقمي، حيث دعت الحملة وزارة الإعلام العمانية إلى وضع
ضوابط تنظم المحتوى الرقمي والإعلانات، لضمان تقديم محتوى هادف يتماشى مع القيم
المجتمعية.
أيضاً طالبت
الحملة بتعزيز الوعي المجتمعي، عبر نشر حملات توعوية تهدف إلى تعريف الأفراد
بأهمية اختيار القدوات بعناية وتأثير ذلك على سلوكهم وتوجهاتهم، كما أكدت ضرورة
دعم المحتوى الإيجابي، من خلال تشجيع صناع المحتوى على تقديم مواد تعليمية، وثقافية،
وفنية، وفكرية، تسهم في بناء مجتمع قوي وواعٍ ومثقف.
حملات مشابهة
لم تكن هذه
الحملة الوحيدة التي تسعى إلى تصحيح بوصلة القدوة في المجتمع العربي، ففي مصر،
أطلق مجموعة من الشباب حملة بعنوان «#قدوتي_مش_مؤثر»، التي تهدف إلى تسليط الضوء
على الشخصيات التي تقدم محتوى هادفًا وملهمًا، بعيدًا عن التفاهة والمحتوى السطحي.
وفي المملكة
العربية السعودية، أطلقت وزارة الإعلام مبادرة «محتوى هادف»، التي تهدف إلى دعم
صناع المحتوى الذين يقدمون مواد تعليمية وثقافية، وتقديم الدعم الفني والمالي لهم؛
ما يعزز من جودة المحتوى الرقمي في المملكة.
زمام المستقبل
رغم هذا الجهد
في مقاومة النماذج التافهة، ووقف السفه والميوعة، تبقى الأزمة متفاقمة، ويبقى أن
ندرك أن ثقافة المشاهير ليست مجرد ترفيه، بل مشروع «بديل قدوة» يتسرب إلى عقول
أجيال لم يجدوا أدوات مجتمعية قوية تأخذ بيدهم نحو القيم، وتعزز حضورها في
ثقافتهم.
المطلوب إذن أن
نعيد الاعتبار لمفهوم القدوة؛ قدوة في الأخلاق، في التضحية، في العمل، في البناء..
فالمجتمع الذي يصنع نجوماً من فراغ؛ يحصد جيلًا هشًّا ينهار عند أول اختبار، أما
المجتمع الذي يكرّم القيم ويحتفي بالإنجاز، فإنه يصنع جيلًا يمسك بزمام المستقبل.
اقرأ أيضاً: