حين يُلهم المحتوى.. صناعة التأثير في العالم الرقمي
_1.jpeg)
في زمنٍ أصبحت
فيه الشاشة الصغيرة نافذة على العالم، صرنا نعيش في دوامة متسارعة من الصور
والمقاطع والرسائل المختصرة، غير أن الغالب على هذا السيل الجارف هو المحتوى
التافه؛ من مقاطع رقص، وتحديات فارغة، وثرثرات عابرة تخطف الانتباه لحظة ثم تترك
فراغًا أكبر مما ملأته!
والسؤال الذي
يطرح نفسه بإلحاح: كيف يمكن للأمة العربية أن تصنع بدائل حقيقية، تنافس هذا السيل،
وتمنح الأجيال غذاءً للعقول والقلوب، لا مجرد فتاتٍ من اللهو؟
أول الطريق.. فهم سرّ الجاذبية
المحتوى التافه
ليس عدوًا وُلد من فراغ، بل هو ابن لعصر السرعة، جاذبيته تقوم على عناصر نفسية؛
سهولة التلقي، وسرعة الانتشار، وإغراء الترفيه السريع؛ لذا فإن من يريد بناء
البديل لا يكفي أن يحمل رسالة سامية، بل لا بد أن يفهم كيف يجذب الناس المحتوى
التافه، ليعيد توظيف هذه الأدوات نفسها لصالح القيم والمعرفة، فهناك تقرير نشرته
«العربية» (2023م) أشار إلى أن 60% من المحتوى الأكثر انتشارًا على «تيك توك» في
العالم العربي هو من النوع الترفيهي الخفيف، مقابل 11% فقط تعليمي أو تثقيفي.
مفتاح العبور إلى الجمهور
أخطأ كثير من
صناع المحتوى الجاد حين ارتدوا لغة الوعظ المباشر والخطاب الثقيل، فالناس تهرب من
المحاضرات المقنّعة على شكل فيديوهات، بينما سرّ البديل الحقيقي يكمن في صياغة لغة
قريبة من الناس، رشيقة، سلسة، بلا تعقيد، تُدخل الفكرة العميقة من الباب الخلفي
للمتعة، لا من النافذة الصاخبة للنصح الجاف.
وقد نشرت جريدة
«الشرق الأوسط» (2022م) دراسة بيّنت أن المحتوى العلمي العربي على «يوتيوب» لا
يتجاوز 3% من إجمالي المحتوى، وأن السبب الرئيس وراء ضعف انتشاره هو «لغة العرض
الجافة».
الصورة قبل الفكرة
في عالم اليوم،
الصورة هي الحاكم الأول، ما يُعرض في عشر ثوانٍ قد يترسخ أكثر مما يُكتب في عشر
صفحات، البديل العربي يحتاج إلى صُناع يجمعون بين إتقان الرسالة واحترافية الصورة؛
من إخراج بصري مبهر، وموسيقى جذابة، ومونتاج سريع الإيقاع، وألوان تُغري المشاهد
بالاستمرار.
إن المحتوى
القيم إذا لم يُقدَّم في قالبٍ بصري مبهر، فسيبقى حبيس النوايا الطيبة، وفي تقرير
لـ«يونسكو» حول الإعلام الرقمي (2021م) أكد أن الفيديو القصير (أقل من 60 ثانية)
يحقق تفاعلًا يفوق المقال المكتوب بـ400% بين الشباب، هذا يفسر سبب تفوق «ريلز»
و«شورتس» على البرامج التلفزيونية التعليمية الطويلة.
الحكاية.. سحر الإنسان الأول
أكثر ما يجذب
الناس ليس المعلومة الجافة ولا الإحصاء الجامد، بل القصة، فالقصة جسر العاطفة
والعقل معًا، فالذي يروي للأطفال كيف قاوم عالم عربي تحديات عصره ليصنع اكتشافًا،
أو كيف حوّل شاب من حيّ فقير حلمه إلى مشروع ناجح؛ سيجد عشرات الآلاف يصغون إليه
أكثر من مقطع رقص عابر، البدائل العربية يجب أن تُبنى على سرد قصصي محكم، يزرع
المعنى داخل القلب بلا تصريح مباشر، وقد نشرت صحيفة «الغارديان» (2019م) دراسة عن
تأثير القصص الرقمية على الأطفال، وأظهرت أن 70% يتذكرون الرسالة حين تأتي في إطار
قصة، مقابل 30% فقط مع الرسائل المباشرة.
المنصات.. حيث يتجمع الناس
لا معنى لصناعة
محتوى جيد ثم تركه على رفوف مواقع منسية، المنافسة الحقيقية تتطلب اقتحام المنصات
التي يتواجد فيها الجمهور فعلًا، مثل: «تيك توك»، «إنستغرام»، «يوتيوب شورتس»، «بودكاست»..
لا عيب في الدخول إلى ساحات يملؤها التفاهة، بل العيب أن نتركها خاوية من البدائل،
وأوضح تقرير «We Are
Social» (2024م) أن
88% من مستخدمي الإنترنت العرب النشطين على «تيك توك» و«إنستغرام» أعمارهم بين 18
و34 عامًا؛ ما يجعل هذه المنصات الميدان الحقيقي لمعركة القيم.
الاستثمار في الموهبة لا في الشعارات
لن يبني البديلَ
العربي جيلٌ من الوعّاظ الرقميين فحسب، بل يحتاج إلى مواهب حقيقية؛ من رسامين، ومخرجين،
وكتّاب، وموسيقيين، ومصممين.. هؤلاء هم من يمنحون الرسالة روحًا وإبهارًا، المحتوى
التافه يغلب لأنه يعتمد على شخصية آسرة، وصانع البديل يجب أن يفهم أن الناس تتابع
الشخص قبل الفكرة؛ لذا، المطلوب هو تمكين مبدعين عرب يمتلكون الكاريزما، ليحملوا
راية البدائل، جريدة «العين الإخبارية» (2023م) حللت صعود عدد من المؤثرين العرب
على «يوتيوب»، وخلصت إلى أن «الكاريزما الفردية» تتفوق على جودة المحتوى بنسبة 65%
في تفسير الانتشار.
التمويل.. معركة لا تقل خطورة
المحتوى التافه
يعيش على اقتصاد ضخم من الإعلانات والرعايات، أما المحتوى الهادف، فيظل يتسول
الدعم، وصناعة البدائل تحتاج إلى رؤية اقتصادية؛ من منصات ربحية، وصناديق دعم، ورعايات
من مؤسسات مسؤولة اجتماعيًا، إذا بقي المحتوى القيمي يتغذى على فتات الجهود
التطوعية، فلن يستطيع منافسة ماكينة التفاهة، وقد ذكرت صحيفة «الاقتصادية»
السعودية (2022م) أن حجم سوق الإعلانات الرقمية في الشرق الأوسط تجاوز 7 مليارات
دولار، يذهب أغلبه لمحتوى ترفيهي وتافه، بينما لا يحصل المحتوى التعليمي أو القيمي
إلا على أقل من 5%.
الترفيه الهادف.. لا تناقض
أحد أكبر
الأخطاء هو معادلة الجدية بالملل، لماذا لا تُقدَّم الفيزياء في لعبة تفاعلية
ممتعة؟ لماذا لا يُحكى التاريخ في مسلسلات كرتونية قصيرة؟ لماذا لا تُقدَّم النصوص
الدينية في مواقف درامية تحاكي حياة الناس اليومية؟
الترفيه ليس
خصمًا للقيمة، بل وسيلة لإيصالها، البديل الحقيقي هو الذي يمزج بين «اللعب»
و«المعنى»، ففي دراسة جامعة قطر (2021م) عن استخدام المحتوى الترفيهي التعليمي (Edutainment) بين طلاب الجامعات، أظهرت أن 82% من الطلاب يفضلون المحتوى
التعليمي عندما يُقدَّم في شكل قصص مرئية أو ألعاب قصيرة.
بناء المجتمع الرقمي الموازي
المحتوى لا يعيش
وحده، بل في مجتمع متابعة وتفاعل، من هنا، ينبغي بناء شبكات عربية متكاملة؛ من
مجموعات، ومنصات، ومبادرات شبابية، تتبادل المحتوى وتدعمه، حين يشعر الشاب أنه
ينتمي إلى مجتمع رقمي يحمل قيماً تشبهه، فلن يجد نفسه وحيدًا أمام جاذبية التفاهة.
وفي تقرير صحيفة
«البيان» الإماراتية (2023م) أوضح أن المبادرات الشبابية الرقمية التي تبني
مجتمعات متابعة للمحتوى القيمي تضاعف انتشارها مرتين خلال 3 سنوات، مثل مبادرات
«عربي21 للتعليم الرقمي»، أو «ملخصات الكتب المصورة».
الرؤية البعيدة.. زرع اليوم لحصاد الغد
قد لا ننتصر في
معركة المشاهدات غدًا، لكن المعركة الحقيقية ليست عدد النقرات، بل تغيير الذوق
العام للأجيال، صناعة البديل العربي مشروع طويل النفس، يحتاج إلى خطط تستثمر في
الأطفال والمراهقين، في المدارس والأنشطة، بالتوازي مع المحتوى الرقمي، حين يكبر
جيلٌ على بدائل ممتعة وهادفة، سيكون أكثر حصانة من أن تجرفه موجة التفاهة.
الطريق ليس مستحيلاً
إن المعركة مع
التفاهة ليست معركة إغلاق أبواب، بل معركة فتح نوافذ أجمل، الناس بطبعهم يبحثون عن
المتعة، فلماذا لا نمنحهم متعة تحمل معنى؟ الشباب يعشقون السرعة، فلماذا لا نقدّم
لهم قيمة بسرعة البرق؟ الأمة العربية قادرة على أن تصنع بدائل، متى ما جمعت بين
الرسالة العميقة، والوسيلة الجذابة، والاستثمار الحقيقي.