خذلان فلسطين بعد 77 عاماً من «النكبة».. نظرة شرعية في فقه النصرة

في الذكرى الـ77 لـ«النكبة» الفلسطينية، تتجدد الآلام، وتتكرر الجرائم الصهيونية بحق شعبٍ أعزل، هُجّر من أرضه، وصودرت ممتلكاته، وقُتل أطفاله ونساؤه، وحوصرت مدنه وقراه، وشُوّه تاريخه.

ومنذ عام 1948م وحتى اليوم، لم تتوقف معاناة الفلسطينيين، ولم تتبدد آمالهم في التحرير والعودة، ومع ذلك، فإن المتأمل في حال الأمة الإسلامية يرى تخاذلًا عامًا، وصمتًا رسميًا وشعبيًا مريبًا، ما يطرح سؤالًا شرعيًا جوهريًا: ما حكم خذلان فلسطين؟ وما هو واجب الأمة تجاهها في ضوء الشريعة الإسلامية؟

أولًا: مكانة فلسطين في الشريعة الإسلامية:

ليست فلسطين قضية قومية فحسب، بل هي قضية عقدية دينية شرعية، فهي الأرض التي بارك الله فيها، وفيها المسجد الأقصى، أولى القبلتين، ومسرى النبي محمد صلى الله عليه وسلم؛ قال الله تعالى: (سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَىٰ بِعَبْدِهِ لَيْلًا مِّنَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الْأَقْصَى الَّذِي بَارَكْنَا حَوْلَهُ) (الإسراء: 1)، وقد روى الإمام أحمد أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «لا تُشد الرحال إلا إلى ثلاثة مساجد: المسجد الحرام، ومسجدي هذا، والمسجد الأقصى» (رواه البخاري، ومسلم).

ففلسطين ليست ملكًا للفلسطينيين فقط، بل هي وقفٌ إسلامي، مسؤولية الأمة كلها، والسكوت عن اغتصابها أو تهويدها خيانة شرعية.

ثانيًا: النصرة في ميزان الشريعة:

إن النصرة في الإسلام ليست خيارًا تطوعيًا أو عاطفة موسمية، بل فريضة شرعية دلّ عليها القرآن الكريم والسنة المطهرة والإجماع؛ قال الله تعالى: (وَإِنِ اسْتَنصَرُوكُمْ فِي الدِّينِ فَعَلَيْكُمُ النَّصْرُ) (الأنفال: 72)، ويقول النبي صلى الله عليه وسلم: «المسلم أخو المسلم لا يظلمه ولا يسلمه» (رواه مسلم).

وقد نص علماء الأمة، ومنهم الإمام ابن تيمية، على أن دفع العدو الصائل واجبٌ على المسلمين كافة، وأنه إذا دخل العدو دار الإسلام، وجب على أهل تلك البلدة دفعه، فإن عجزوا وجب على من يليهم، ثم من يليهم، حتى يكون واجبًا على الأمة كلها.

ثالثًا: صور خذلان الأمة لفلسطين اليوم:

بعد مرور أكثر من 7 عقود، نجد أن خذلان الأمة للقضية الفلسطينية قد اتخذ أشكالًا عديدة، منها:

1- الصمت الرسمي والشعبي، تجاه المجازر الصهيونية، وكأن ما يجري لا يعني المسلمين.

2- الانشغال بقضايا تافهة وقت المحن، كالمباريات والمهرجانات والترف، دون إحساس بمأساة غزة والضفة.

3- التطبيع العلني مع العدو الصهيوني، سياسيًا واقتصاديًا وثقافيًا، في تحدٍّ سافر للشعوب ولقيم الدين.

4- شيطنة المقاومة الفلسطينية، واتهامها بالإرهاب، بدل دعمها وتقدير تضحياتها.

5- ضعف الدعم المالي والإغاثي والإعلامي، وتقييد حركة الجمعيات التي تساند القضية.

6- تغييب فلسطين من المناهج التربوية والبرامج الدعوية؛ ما ساهم في ضعف الوعي العام بالقضية.

وكل هذه الصور تُعدّ في ميزان الشريعة أفعال خذلان، وإثمًا عظيمًا، وتركًا لواجب النصرة.

رابعًا: الواجب الشرعي تجاه فلسطين:

لا يُعذر المسلم بالتقاعس، فإن لم يقدر على النصرة بالسلاح، فبالمال، أو بالكلمة، أو بالدعاء، أو بالمقاطعة، ومن الواجبات الشرعية تجاه فلسطين:

1- الدعاء المستمر لأهلها بالثبات والنصر، قال النبي صلى الله عليه وسلم: «الدعاء هو العبادة» (رواه الترمذي).

2- دعم المقاومة ماديًا ومعنويًا، فالمجاهدون في سبيل الله لهم حق على الأمة، قال صلى الله عليه وسلم: «من جهز غازيًا فقد غزا» (رواه البخاري).

3- المقاطعة الاقتصادية والسياسية للعدو، وقد أفتى العلماء بوجوبها.

4- نشر الوعي بالقضية في المدارس، والمساجد، ووسائل الإعلام.

5- الضغط على الحكومات لكسر الحصار، ومنع التطبيع، والدفاع عن المسجد الأقصى.

6- التربية الجهادية للأبناء، فالنصر يحتاج إلى أجيال واعية مؤمنة بقضيتها.

خامسًا: وعيد الشريعة في خذلان المظلوم:

السكوت عن نصرة فلسطين له وعيد شديد في الإسلام، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «ما من امرئٍ يخذل امرأً مسلمًا في موطن يُنتقص فيه من عرضه ويُستباح فيه حرمته، إلا خذله الله في موطن يحب فيه نصرته» (رواه أبو داود)، ويقول الله تعالى: (وَاتَّقُوا فِتْنَةً لَا تُصِيبَنَّ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنكُمْ خَاصَّةً) (الأنفال: 25)، أي أن الخذلان سبب في هلاك الجميع، لا الظالم وحده.

سادسًا: هل من أمل بعد هذا التخاذل؟

رغم الخذلان، فإن فلسطين لم تسقط، بل قدّمت نماذج عظيمة في الصمود، والشهادة، والبذل، وتربية الجيل، حتى باتت غزة المحاصَرة رمزًا للعزة والكرامة.

إن وعد الله بالنصر لا يتخلف، قال تعالى: (وَلَيَنصُرَنَّ اللَّهُ مَن يَنصُرُهُ) (الحج: 40)، وقال أيضًا: (إِنْ تَنصُرُوا اللَّهَ يَنصُرْكُمْ وَيُثَبِّتْ أَقْدَامَكُمْ) (محمد: 7).

والواجب اليوم هو أن نرجع إلى الله، ونتوب من التقصير، ونجعل من قضية فلسطين محورًا في حياتنا، لا نمل من الدعاء لها، ولا نفتر عن نصرتها، حتى يأتي وعد الله، ويعود المسجد الأقصى إلى حضن الأمة.

إن خذلان فلسطين بعد 77 عامًا من «النكبة» إثم عظيم وتقصير شرعي واضح، لا يُغتفر لمن قدر على النصرة وتخلف عنها، وإن من واجب كل مسلم أن يسهم في نصرة قضية «الأقصى» بما يستطيع.

الرابط المختصر :

تابعنا

الرئيسية

مرئيات

العدد

ملفات خاصة

مدونة