دار الذكاء الاصطناعي.. فتاوى بلا مُفتٍ!

عبدالقادر وحيد

02 سبتمبر 2025

621

نبه القرآن الكريم إلى ضرورة تقدير أهل التخصص والرجوع إليهم، وذلك في الإطار العام الذي يحثّ القرآن عليه دائماً ويوجه المؤمنين إلى اتبّاع الطريق الأمثل، حيث عبّر عن أصحاب التخصص بـ«أهل الذكر»، فقال تعالى: (فَاسْأَلُواْ أَهْلَ الذِّكْرِ إِن كُنتُمْ لاَ تَعْلَمُونَ) (النحل: 43)، فالقرآن الكريم تناول الحديث عن التخصص من خلال مبدأ: (وَلِكُلٍّ دَرَجَاتٌ مِّمَّا عَمِلُواْ) (الأنعام: 132)؛ وذلك ليشجع على التخصص في مختلف مجالات المعرفة والعمل.

وأيضا حثّت السُّنة النبوية على احترام التخصص في كل مناحي الحياة، وأن الأمر ليس مقصوراً فقط على الأمور الدينية، فتذكر كتب السير أن الصحابي كعباً بن مالك كان في غاية السعادة حينما نسبه صلى الله عليه وسلم إلى تخصصه فتقول الرواية: قال: فدخلنا المسجد فإذا رسول الله صلى الله عليه وسلم والعباس ناحية المسجد جالسين، قال: فسلمنا، ثم جلسنا، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم للعباس: «هل تعرف هذين الرجلين يا أبا الفضل؟»، قال: نعم، هذا البراء بن معرور سيد قومه، وهذا كعب بن مالك، فو الله ما أنسى قول رسول الله صلى الله عليه وسلم: الشاعر»(1).

وعلى الرغم أن النبي صلى الله عليه وسلم كانت تجري على يديه المعجزات في الطب، مثل رده لعين أحد الصحابة وهو قتادة بن النعمان في غزوة «أحد» بعد أن سقطت على الأرض فردّها، وكانت أحدّ العينين بصراً، وغيرها من المعجزات، لكنه عليه السلام كان يحترم التخصص، وذلك عندما مرض الصحابي سعد بن أبي وقاص قال له: «إنك رجل مفؤود ائت الحارث بن كَلَدة أخا ثقيف، فإنه رجل يتطبب..»(2).

تفسير المنامات على مواقع التواصل!

مع سرعة وتيرة التقنيات باتت هي الطريقة الأسرع والأسهل في السؤال عن كل شيء دون التدقيق فيمن يقوم بالجواب عن السؤال، وصار الذكاء الاصطناعي الأستاذ والمفتي والموجّه في قضايا خطيرة ومسائل لأشخاص يرهنون حياتهم بها.

ومن أكثر هذه الظواهر تأتي ظاهرة «تفسير المنامات» التي صارت الإجابة عنها أبسط ما يكون من خلال سؤال الذكاء الاصطناعي أو الامتثال لأشخاص غير معروفين، إنما جاءت شهرتهم فقط على وسائل التواصل.

ويكفي في احترام تخصص تفسير المنامات والرؤى، أنه لم يكن أحد أعلم بتفسيرها من النبي صلى الله عليه وسلم، ومع ذلك كان يؤسس لمفهوم التخصص، حيث كان يرى الرؤيا فيقول للصديق: «ماذا تقول فيها يا أبا بكر؟»؛ اعترافاً وتقديراً منه لتخصصه في هذا المجال، ومن ذلك أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «رأيت كأني لقيت لقمة من حيس فالتذذت طعمها فاعترض في حلقي منها شيء حين ابتلعتها فأدخل علي يده فنزعه»، فقال أبو بكر الصديق رضي الله عنه: يا رسول الله، هذه سرية من سراياك تبعثها فيأتيك منها بعض ما تحب ويكون في بعضها اعتراض فتبعث علياً فيسهله(3).

وقد وقعت كما عبّرها الصديق رضي الله عنه في سرية بني جذيمة، التي تبرأ فيها صلى الله عليه وسلم مما فعل خالد بن الوليد وقال: «اللهم إني أبرأ إليك مما يصنع خالد»، وقد أرسل بالفعل علياً بن أبي طالب فأصلح ما أفسده خالد بن الوليد.

ولكن على منصات التواصل، وفي المقدمة منها، اللجوء إلى رأي الذكاء الاصطناعي، ترى سيولة غير مسبوقة في الإدلاء بتفسير المنامات رغم أنها تأتي في سياق الفتوى كما قال وصفها القرآن: (يُوسُفُ أَيُّهَا الصِّدِّيقُ أَفْتِنَا فِي سَبْعِ بَقَرَاتٍ) (يوسف: 46).

وكان العلامة ابن سيرين من أجبن الناس في الإدلاء بالفتوى الشرعية، ولكنه أجرؤهم على تعبير الرؤيا، لأنها من تخصصه(4).

وصفات طبية قاتلة

تعتبر الوصفات الطبية من أخطر الظواهر التي يشتعل بها الذكاء الاصطناعي، التي تبتعد كل البعد عن كل ما يره التخصص الحقيقي أو الأكاديمي، حيث يكتب بعض الأشخاص ما يعانيه، فتنهال عليه الأجوبة من كل حدب وصوب بضرورة تناول العلاج الفلاني أو العشبة الفلانية.

مؤسسات ومنظمات صحية حذرت من وصف الأعشاب لعلاج المرضى بطريقة عشوائية؛ التي تدخل بالأساس في تركيبة الوصفات الشعبية، حيث تحتوي على مواد سامة وفطريات العفن، بل إن بعضها محشو بمواد دوائية كمضادات الالتهاب والكورتيزون والباراسيتامول ومضادات حيوية لا تعرف مدة صلاحياتها.

أيضاً عجّت صفحات مواقع التواصل الاجتماعي بظاهرة بيع الأدوية عبر مواقع الإنترنت، دون التورع من خطورتها على مستهلكيها، فعادة ما تكون مجهولة المصدر، ولا يمكن معرفة أين وكيف تم تصنيعها أو المواد التي تدخل في تركيبها، وقد تصل لمعدلات سامة لانعدام الرقابة عليها.

الغريب أيضاً تجد أن البعض يروّج لعلاج واحد وأنه يصلح لكل الأمراض على وجه الأرض، على الرغم أن القرآن حينما تناول مسألة التداوي بعلاج مثل علاج عسل النحل، قال الله تعالى: (فِيهِ شِفَاء لِلنَّاسِ) (النحل: 69)، وليس شفاءً لكل الناس؛ يقول الإمام الفخر الرازي: فيه شفاء للناس؛ الصحيح أنه صفة للعسل، فإن قالوا: كيف يكون شفاء للناس وهو يضر بالصفراء ويهيج المرار؟ قلنا: إنه تعالى لم يقل: إنه شفاء لكل الناس ولكل داء وفي كل حال، بل لما كان شفاء للبعض، ومن بعض الأدواء صلح بأن يوصف بأنه فيه شفاء، والذي يدل على أنه شفاء في الجملة أنه قل معجون من المعاجين إلا وتمامه وكماله إنما يحصل بالعجن بالعسل، وأيضاً فالأشربة المتخذة منه في الأمراض البلغمية عظيمة النفع، ومع ذلك فإنه تعالى ختم الآية بقوله: (إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَةً لِّقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ) (النحل: 69)(5).

وفي هذا تنبيه إلى عدم القطع بصلاحية أي دواء لعلاج كل المرضى، ومع ذلك لا تتورع بعض الصفحات على مواقع التواصل والقنوات الفضائية بالترويج بما يخالف جوهر القرآن والسُّنة.

ويكفي في ذلك من إثم ما وجهه صلى الله عليه وسلم لهؤلاء الأشخاص الذين أفتوا بغير علم في مسألة كان لهم ألا يجيبوا فيها بغير بعلم؛ وهي مسألة «صاحب الشجّة»؛ الذي أصابه حجر فشجّ رأسه، فسأل البعض في رخصة التيمم بدلاً من استعمال الماء، حتى لا يهيج جرحه، فقالوا: لا نجد لك رخصة، فاغتسل من الاحتلام فمات.

فلما رجعوا إلى النبي صلى الله عليه وسلم قال: «قتلوه، قتلهم الله، ألا سألوا إذ لم يعلموا؟ فإنما شفاء العيّ السؤال»، حيث يقول الإمام ابن القيم: فدعا عليهم لما أفتوا بغير علم، فجعل الجهل مرضاً وشفاءه سؤال أهل العلم»(6).

وما أكثر ما يرتكب من الجهل في ذلك على منصات التواصل الاجتماعي ولسان حال الضحايا للمتصدرين بغير علم يقول: «قتلتمونا بالجهل قتلكم الله»!

اقرأ أيضاً:

تصوير الجنة بالذكاء الاصطناعي

قطار الذكاء الاصطناعي.. كيف نعد الجيل الجديد؟

الذكاء الاصطناعي في مناهج التعليم.. تفوق معرفي أم كسل عقلي؟

الغباء الاصطناعي.. عندما تنافس الآلة البشر هكذا تكون النتيجة

___________________

(1) الإمام البيهقي: دلائل النبوة.

(2) ابن سعد في الطبقات، وسنن أبي داود.

(3) سبل الهدى والرشاد.

(4) البداية والنهاية لابن كثير، وسير أعلام النبلاء للذهبي.

(5) فخر الدين الرازي: مفاتح الغيب.

(6) ابن القيم: إغاثة اللهفان من مصايد الشيطان.

الرابط المختصر :

تابعنا

الرئيسية

مرئيات

العدد

ملفات خاصة

مدونة