دروس اقتصادية من وفاة الرسول ﷺ

الموت نهاية كل إنسان، وكل إنسان يموت بأجله، وفي موت الرسول صلى الله عليه
وسلم رسالة لكل حي يستفيد منها ويعمل لها، وقد مررت منذ أيام بمصيبة الموت في أعز
ما في حياتي وبيتي وهي زوجتي -رحمها الله وأسكنها الفردوس الأعلى من الجنة- ورغم
عظم المصيبة، فإن المسلم لا محل له إلا الرضا بأمر الله تعالى، فلله ما أخذ، وله
ما أعطى، وكل شيء عنده بأجل مسمى، وإنا لله وإنا إليه راجعون.
إن الدنيا لو دامت لأحد لدامت لخير الخلق رسول الله صلى الله عليه وسلم،
وفي هذا المصاب الذي ألمَّ بي جالت بي الذاكرة إلى وفاة الرسول صلى الله عليه وسلم،
وما يرتبط بتلك الوفاة من دروس اقتصادية، لعل ذلك يكون عبرة وزاداً لي ولغيري.
ففي أوائل صفر من السنة الحادية عشرة للهجرة، خرج النبي صلى الله عليه وسلم
إلى «أُحد»، فصلَّى على الشهداء كالمودع للأحياء والأموات، ثم انصرف إلى المنبر
فقال: «إني فرط لكم، وأنا شهيد عليكم، وإني والله لأنظر إلى حوضي الآن، وإني أعطيت
مفاتيح خزائن الأرض، أو مفاتيح الأرض، وإني والله ما أخاف عليكم أن تشركوا بعدي،
ولكن أخاف عليكم أن تنافسوا فيها».
وبدأ مرض رسول الله صلى الله عليه وسلم في أواخر صفر، فقد خرج إلى بقيع
الغرقد من جوف الليل، فاستغفر لهم، ثم رجع لأهله، فلما أصبح بدأت بوادر مرضه، حيث
أخذه صداع في رأسه، واتقدت حرارته، حتى إنهم كانوا يجدون سورتها فوق العصابة التي
تعصب بها رأسه، وكان يدور على نسائه، فلما ثقل عليه الوجع استأذن نساءه أن يمرض في
بيت عائشة؛ فأذنَّ له.
واشتدت وطأة المرض على النبي صلى الله عليه وسلم واتقدت حرارة العلة في
بدنه، فقال: «هريقوا عليَّ سبع قرب من آبار شتى حتى أخرج الناس فأعهد إليهم»،
فأقعدوه في مخضب لحفصة، وصبوا عليه الماء حتى طفق يقول: «حسبكم حسبكم».
وعند ذلك أحس بخفة، فدخل المسجد عاصباً رأسه حتى جلس على المنبر، والناس
مجتمعون حوله، ثم كان أول ما تكلم به أنه صلى على أصحاب «أُحد» واستغفر لهم، فأكثر
الصلاة عليهم، وقال: «قاتل الله اليهود والنصارى اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد»،
وقال: «لا تتخذوا قبري وثناً يُعبد»، وعرض نفسه للقصاص قائلاً: «من كنت جلدت له
ظهراً فهذا ظهري فليستقد منه، ومن كنت شتمت له عرضاً فهذا عرضي فليستقد منه».
ثم نزل فصلى الظهر ثم رجع فجلس على المنبر وعاد لمقالته الأولى في الشحناء
وغيرها، فقال رجل: أنا لي عندك ثلاثة دراهم، فقال: «أعطه يا فضل»، ثم أوصى
بالأنصار قائلاً: «الأنصار كرشي وعيبتي، والناس سيكثرون ويقلون، فاقبلوا من
محسنهم، وتجاوزوا عن مسيئهم»، وفي رواية قال: «فإن الناس يكثرون، وتقل الأنصار حتى
يكونوا كالملح في الطعام، فمن ولي منكم أمراً يضر فيه أحداً أو ينفعه، فليقبل من
محسنهم، ويتجاوز عن مسيئهم».
ثم قال: «إن عبداً خيَّره الله بين أن يؤتيه من زهرة الدنيا ما شاء، وبين
ما عنده، فاختار ما عنده»؛ فبكى أبو بكر وقال: فديناك بآبائنا وأمهاتنا، فعجب
الناس له! وقالوا: انظروا إلى هذا الشيخ، يخبر رسول الله صلى الله عليه وسلم عن
عبد خيّره الله بين أن يؤتيه من زهرة الدنيا وبين ما عنده، وهو يقول: فديناك
بآبائنا وأمهاتنا! فكان رسول الله صلى الله عليه وسلم هو المخيَّر، وكان أبو بكر
هو أعلمهم به، وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إن من أمنّ الناس عليَّ في
صحبته وماله أبا بكر، ولو كنت متخذاً خليلاً من أمتي لاتخذت أبا بكر، إلا خلة
الإسلام، لا يبقين في المسجد خوخة إلا خوخة أبي بكر».
وقبل وفاته صلى الله عليه وسلم بثلاثة أيام أوصى بثلاث: «بإخراج اليهود
والنصارى والمشركين من جزيرة العرب، وإجازة الوفود بنحو ما كان يجيزهم»، والثالث
نسيه الراوي ولعله «الاعتصام بالكتاب والسُّنة، أو تنفيذ جيش أسامة أو هي الصلاة
وما ملكت أيمانكم».
وقبل يوم من الوفاة؛ أي يوم الأحد، أعتق النبي صلى الله عليه وسلم غلمانه،
وتصدق بسبعة دنانير كانت عنده، ووهب للمسلمين أسلحته، وفي الليل استعارت عائشة
الزيت للمصباح من جارتها، وكانت درعه صلى الله عليه وسلم مرهونة عند يهودي بثلاثين
صاعاً من شعير.
وقيل: إن قوله تعالى: (وَاتَّقُوا
يَوْمًا تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى اللَّهِ ثُمَّ تُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ مَا
كَسَبَتْ وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ) (البقرة: 281) نزلت قبل موت النبي صلى
الله عليه وسلم بتسع ليال ثم لم ينزل بعدها شيء، وقيل: بسبعة ليال، وقيل: بثلاث
ليال، وروي أنها نزلت قبل موته بثلاث ساعات، فقد جاءت هذه الآية خاتمة لآيات
القرآن الكريم، فهي آخر آية نزلت منه، وقد ختمت آيات الربا، وهو ما يعكس قيمة
الاقتصاد في حياة الأمة، وارتباطه باليوم الآخر.
ولما كان يوم الإثنين الذي قبض فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم، خرج إلى
الناس وهم يصلون الصبح، فرفع الستر، وفتح الباب، فخرج رسول الله صلى الله عليه
وسلم فقام على باب عائشة، فكاد المسلمون يفتتنون في صلاتهم برسول الله صلى الله
عليه وسلم حين رأوه فرحاً وتفرجوا (أي: أفرجوا له مكاناً وتوسعوا)، فأشار إليهم أن
اثبتوا على صلاتكم، وتبسم رسول الله صلى الله عليه وسلم سروراً لما رأى من هيئتهم
في صلاتهم، ثم رجع وانصرف الناس، وهم يرون أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قد
أفرق من وجعه.
ورجع الرسول صلى الله عليه وسلم إلى عائشة فاضجع في حجرها، ووجدت رسول الله
صلى الله عليه وسلم يثقل في حجرها، فذهبت تنظر في وجه فإذا بصره قد شخص، وهو يقول:
«بل الرفيق الأعلى من الجنة»، فقالت: خيرت فاخترت والذي بعثك بالحق، وقبض رسول
الله صلى الله عليه وسلم، وإنا لله وإنا إليه راجعون.
ووقع هذا الحادث حين اشتدت الضحى من يوم الإثنين 12 ربيع الأول 11هـ، وقد
تم له صلى الله عليه وسلم 63 سنة وزادت 4 أيام، وأظلمت على المدينة أرجاؤها
وآفاقها، حينما تسرب نبأ وفاة النبي صلى الله عليه وسلم.
واتجه المسلمون لاختيار خليفة رسول الله صلى الله عليه وسلم في سقيفة بني
ساعدة فبايعوا أبا بكر، وأقبلوا بعد ذلك على جهاز رسول الله صلى الله عليه وسلم
يوم الثلاثاء، ودخل الناس يصلون عليه أرسالاً، وحفر قبره صلى الله عليه وسلم تحت
فراشه الذي توفي فيه، ثم دفن من وسط الليل ليلة الأربعاء.
إن حادثة وفاة الرسول صلى الله عليه وسلم التي هزت الدنيا كلها مكانياً
وزمانياً حتى يومنا هذا وإلى أن يرث الله تعالى الأرض ومن عليها لا تخلو من دروس
اقتصادية، فالنبي صلى الله عليه وسلم بيَّن لأمته أن مفاتيح خزائن الأرض تحت
أيديهم، ولكن ما يخشاه عليهم هو التنافس فيها، فيؤدي بهم هذا إلى هلاكهم، فالموارد
وسيلة لا غاية، واليوم نجد فئة من المسلمين همتهم مواردهم الطبيعية وعجزوا عن
تصنيع احتياجاتهم، واستغلوا ما تجلبه عوائدهم في التعالي في البنيان والتنافس
المذموم.
كما أن وفاء الحقوق أمر بالغ الأهمية، ومنها الحقوق المالية، وقد حرص عليه
النبي صلى الله عليه وسلم على استيفاء من له دَيْن عليه، وطلب من الفضل بن العباس
أن يسدد 3 دراهم كانت ديناً لرجل عليه.
كما أن وصية الرسول صلى الله عليه وسلم بالأنصار هو درس في المعاملة وحسن
القيادة، فعدم نسيان الفضل لأهل الفضل، وقبول المحسن والتجاوز عن المسيء.
كما أن حرص الرسول صلى الله عليه وسلم في وصاياه بإجازة الوفود بنحو ما كان
يجيزهم، يعكس السلوك الكرمي الذي رسخه رسول الله صلى الله عليه وسلم نحو هذه
الوفود، من حسن التقدير، ودوام المعاملة الحسنة.
ومات النبي صلى الله عليه وسلم ولم يترك غلاماً له؛ فقد أعتقهم، ولم يترك
مالاً أو ميراثاً، فتصدق بكل ما يملكه وهو 7 دنانير، وحتى أسلحته وهبها، ومصباح
بيته استعارت عائشة زيته، وحتى طعام بيته من الشعير اشتراه بأجل من يهودي ورهن
درعه مقابل ذلك، عشت طيباً ومت طيباً يا حبيبي يا رسول الله.