دور التحدي في التربية الإيجابية
يظن بعض المربين أن حرمان الأبناء من
التحدي هو حماية لهم من تعرضهم لأي أضرار أو شرور أو إحباط، لكن هذا الاعتقاد خطأ
كبير، فهذا الحرمان يحجب عن الإنسان القدرة على تقوية الذات والشخصية ويُضعف
صلابته وملكاته ويجعله هشاً قابلاً للكسر مع أي صدمة أو امتحان أو تقلب من تقلبات
الحياة.
التربية الإيجابية وبناء
الذات
ولعل الدرس الأول لأهمية التحدي في بناء
الذات القوية يأتي من الجسد، فعضلات الإنسان لا تتشكل وتقوى إلا مع التحدي القادم
من التدريب القاسي، وبدونه ستظل العضلات رخوة طرية ضعيفة.
التربية الإيجابية ترى في التحدي ضرورة
لبناء الشخصية وسلامتها من التشوهات، وتحقيقاً لصلابتها في مواجهة الشدائد
والصدمات، فهي نهج تربوي يركز على التوجيه من خلال التعليم والتشجيع بدلاً من
العنف واللوم والتوبيخ والعقاب والنقد، ولعل أبرز ما فيها هو تحفيز الشخص على
اكتشاف قدراته المكنونة والمدفونة، واستحضارها للتعامل مع الصدمات والتحديات
والأهداف والغايات، ومن ثم فتلك التربية ترى في الشخص القدرة والإمكانات الكامنة،
وأن تلك القدرات تشبه الخزائن التي تحتاج إلى مفاتيح لاستخراج ما فيها.
وتذهب بعض الدراسات النفسية إلى أن هناك
مجموعة من التقنيات قد يكون من الأهمية بمكان استخدامها في التربية الإيجابية،
أهمها التحفيز، وهذا التحفيز يتحقق من الثناء على الإيجابيات ودفع الشخص إلى
اكتشاف ذاته ومواهبه من خلال طرق متعددة، منها أسلوب التجربة والخطأ، وهو ما ذهبت
إليه دراسات عالم النفس النمساوي ألفريد أدلر (ت 1937م) من أن دور التربية
الإيجابية مهم في الوقاية مستقبلاً من المشكلات النفسية، وأن تلك التربية من
مسببات النمو والازدهار.
أما الوجه الآخر الذي تقاومه التربية
الإيجابية فهو الحماية المفرطة، فهذه الحماية تُخل بالتوازن التربوي ولها عواقب
شديدة الإضرار على بناء الشخصية، تشير الدراسات إلى أن الأطفال الذين يخضعون
لحماية مفرطة من والديهم ومربيهم هم أقل امتلاكاً لمهارات التعامل مع الحياة،
وأنهم قد يعانون من القلق والتوتر ويواجهون مشكلات متكررة في حياتهم، وتُظهر
الأبحاث أن الإفراط في الحماية قد يُؤدي إلى القلق، وانخفاض تقدير الذات.
وتشير دراسات حديثة إلى أن الشباب الذين
يبالغ آباؤهم في التدخل في شؤونهم غالبًا ما يواجهون صعوبة في الدفاع عن أنفسهم،
ويواجهون معدلات أعلى من القلق والاكتئاب، ومن ملامح تلك الحماية المفرطة:
المراقبة المستمرة للطفل أو الشاب، وإضعاف روح الاستقلال لدية وتنمية الاعتمادية
على والديه في غالبية شؤونه وعلاقاته، وقيام الوالدين بالتخطيط لمستقبله وإجباره
ودفعه إلى خيارات ومسارات لم يشارك في صناعتها وقد لا تستهويه وقد تكون ضد رغباته،
كذلك تنمية مشاعر الخوف لدى الطفل أو الشاب من كل تجربة أو اختيار أو مسار جديد،
وهنا يكون الخوف عقبة نفسية دائمة في ذلك النوع من التربية الحمائية.
التحدي.. والتربية
الإيجابية
يشكل اللجوء إلى التحدي كآلية ومحفز في
التربية الإيجابية مخرجاً للكثير من مشكلات التربية الحمائية، ووسيلة لبناء شخصيات
قوية قادرة على مواجهة الصدمات والتعاطي مع الأخطار وتقلبات الحياة، ونستحضر هنا
مقولة جلال الدين الرومي في ضرورة مواجهة التحدي وليس الهروب منها: «هروبك مما
يؤلمك، سيؤلمك أكثر، لا تهرب.. تألم حتى تشفى»، فالتحدي مثل النحات البارع الذي
يعيد رسم الشخصية ويعطيها ملامحها المميزة والناضجة.
وحسب عالمة النفس الأمريكية إيمي فيرنر (ت
2017م) التي ركزت أبحاثها على دور التحدي والمخاطرة في بناء الشخصية، رأت في
التحدي عدسة جديدة يمكن من خلالها رؤية القوة البشرية، وقدمت أفكاراً ورؤى قائمة
على القوة لبناء الشخصية، وقد أمضت قرابة 40 عاماً في دراسة أطفال أسر تعاني من
الحرمان، وخلصت دراستها إلى أن 30% من هؤلاء أصبحوا نابغين بشكل مذهل وفاق
أقرانهم.
وقد أشارت فيرنر إلى مسألة دقيقة، وهي:
أن ذلك النجاح كان نابعاً من داخلهم؛ أي من إرادتهم، حيث اتخذ هؤلاء قراراً بأن
معاناتهم ومأساتهم لن تؤثر عليهم، وأنهم لن يسمحوا لها أن تكون عقبة أمامهم، ومن
ثم فإعادة هيكلة علاقة الشخص بالواقع بشكل إيجابي، مسألة مهمة، حتى يستطيع أن ينظر
إلى التحدي كفرصة لتنمية ذاته وليس عقبة تتحطم عليها أحلامه.
وهناك أبحاث في مجال علم النفس تتحدث ليس
عن قدرة الأشخاص على مواجهة الصدمات والشدائد فقط، ولكن الانتقال إلى ساحة النجاح،
وهو ما تناولته د. إيمي كودي، عالمة النفس والأستاذة بجامعة هارفارد، ففي كتابها «أطلق
العنان لثقتك الداخلية» أن على المرء أن ينشغل بتقييم ذاته أثناء مواجهة التحدي،
قبل الانشغال بنظرة الآخرين إليه؛ لأن ذلك هو الذي يُقويه.
وتقول: «إذا تبنينا سلوكيات تعكس القوة
والقوة، فإننا نحرر أنفسنا من المخاوف والشكوك التي تعيقنا»، وأكدت أن علم الأعصاب
أظهر قدرة أدمغتنا على صنع خلايا عصبية جديدة، في أي عمر، وهو ما يعني إمكانية
إنشاء أنماط تفكير جديدة، وأنه يمكن تقوية الخلايا العصبية في دماغ الإنسان وتحسين
اتصالاتها بالدماغ، ومن ثم يمكن تعزيز الثقة بالنفس.
أما كارول دويك، الأستاذة بجامعة
ستانفورد الشهيرة، فتحدثت عن «عقلية النمو»، وقدمت أدلة تُثبت أننا قادرون على
تطوير شخصياتنا ومواهبنا بالإيمان الصادق بقدرتنا على ذلك، ومن ثم فالانتصار على
التحدي، لا يكون بإنكاره، أو إغفاله، ولكن بالاستعداد للتغلب عليه وتجاوزه، ووضع
التحدي في حجمه الحقيقي، فالتحدي ليس معناه الاستحالة، ولكن معناه القدرة على
الاستجابة والتجاوز.
أما الرؤية الإسلامية فترفض روح
الاستكانة والضعف في مواجهة الحياة، وترى ضرورة مواجهة التحدي بكل قوة، وقد منحتنا
تلك الرؤية مفهوماً عظيماً يشد من عزم الإنسان في مواجهة التحدي، ألا وهو مفهوم
الاستعانة بالخالق سبحانه وتعالى، والإيمان بأن الأمور تجري بمقادير، وأن على
المؤمن ألا يضعف، ولكن يستمد من خالقه قوة ومدداً لتجاوز التحدي والصدمات.
وفي الحديث الذي رواه الإمام مسلم، يقول
النبي صلى الله عليه وسلم: «المؤمن القوي خيرٌ وأحبُّ إلى الله من المؤمن الضعيف،
وفي كلٍّ خير، احرص على ما ينفعك، واستعن بالله ولا تعجز، وإن أصابك شيء فلا تقل
لو أنِّي فعلت كان كذا وكذا، ولكن قل: قدَّر الله وما شاء فعل، فإنَّ لو تفتح عمل
الشيطان»؛ وقد فسر الإمام النووي مفهوم القوة هنا بعزيمة النفس.