ذئاب في إهاب الضَّأن.. وقفات عن النصرة والقوة

لقد رأت قريش كيف ينتشر الدين وتزداد
قوته ومنعته، ويبزغ فجره ونوره في أرجاء مكة وهضابها، خصوصاً بعد عودة عمرو بن
العاص، وعبدالله بن أمية، من الحبشة، صفري اليدين، يحملان ما يكرهان من خبر منع
المسلمين وأمنهم في جوار النجاشي، ليتفق ذلك أن تقوم قريش بكتابة الصحيفة القاطعة
الظالمة في حرب بني هاشم، فكتبوها وتعاهدوا عليها وقد وضعوها في جوف الكعبة.
خرج من بني هاشم أبو لهب بن عبدالمطلب
إلى قريش، فلقي هند بنت عتبة فقال لها: كيف رأيتِ نصري اللاَّت والعزى؟ فقالت: أحسنت
فعلاً. (البداية والنهاية، ابن كثير، ذكر خبر الصحيفة).
ولقد ذكر أهل السير في غير ما موضع أن
أبا لهب لقي حكيماً بن حزام ومعه قمح يريد عمته خديجة بنت خويلد رضي الله عنها وهي
عند رسول الله صلى الله عليه وسلم، فنهاه أن يذهب بالطعام لها، فقال له أبو
البختري: مالك وله؟ عنده طعام لعمته أفتمنعه أن يذهب به إليها؟ خلِّ سبيله، فأبى
ذلك أبو لهب، فضربه البختري بلَحْيِ جمل فشجه.
لقد قام نفر من قريش تحركت المروءة فيهم،
وانتبهت عروبتهم من رقدتها، فتوافقوا على تمزيق ودحض الصحيفة وكسر الحصار المضروب
على بني هاشم، ودفع الظلم والجور عن الضعيف الأعزل، وإرجاع حريته له، إذ كيف
ينعمون والقريب يتلوى من الجوع، والمسكين تقعده المتربة.
فكان هشام بن عمرو بن الحارث يأتي
بالبعير وقد أوفره طعاماً ليلاً، ويستقبل به الشِّعب، فيخلع عنه خطامه، حتى تتابعت
النصرة إلى زهير بن أبي أمية، وهو ابن عاتكة بنت عبدالمطلب فقال له: يا زهير،
أرضيت أن تأكل الطعام وتلبس الثياب وتنكح النساء وأخوالك من بني هاشم حيث علمت؟! أما
إني أحلف بالله لو كان أخوال بني الحكم -يعني أبا جهل- ثم دعوته إلى مثل هذا
أجابني له، فقال: ماذا أصنع إنما أنا واحد؟ فقال له هشام: لقد ربحت رجلاً معك، فقال
زهير: ومن هو؟ قال: أنا، فقال زهير: ابغنا ثالثاً» (الروض للسهيلي باب الصحيفة).
يقول ابن كثير: فما زال بهم هذا الأمر
يتعاقبون حديثه كل يخبر به صاحبه فيقول له مثل الذي قال زهير: ابغنا ثالثاً، فكان
الثالث هو المطعم بن عدي، والرابع هو أبو البختري، والخامس زمعة بن عبدالمطلب.
وقد قال زهير: أنا أبدأ في قريش، والمطعم
يخلع الصحيفة، فخرج زهير بن أبي أمية إلى قريش في ناديهم عند البيت فقال: يا أهل
مكة، أنأكل الطعام ونلبس الثياب وبنو هاشم لا يبتاعون ولا يُبتاع منهم، والله لا
أقعد حتى أشق هذه الصحيفة القاطعة الظالمة، فكان الذي كتب الصحيفة منصور بن عكرمة
وقد شُلَّت يده. (البداية والنهاية، ابن كثير، باب شعب أبي طالب).
إن التعاطف والشجون إن لم تترجمه الأفعال
الإيجابية والخطوات الدافعة، لا فائدة منه، فالتعاطف لا بد أن يجدد العزمات ويحرك
الراكد من الشعور، خصوصاً وقد تأْسلف النفس مشاهد الخذلان والتخلي.
إن المرارة التي تلحق الضعيف والغصة التي
تزرع في روحه، لا يفهمها إلا من عرف حقيقتها وخبر أمرها وأثرها، والقرآن الكريم في
تأكيد مستمر لمفهوم النصرة بمعناها الواسع، وهو الاستجابة العامة بلا تحديد مقيد؛ (وَإِنِ اسْتَنصَرُوكُمْ فِي
الدِّينِ فَعَلَيْكُمُ النَّصْرُ) (الأنفال: 72).
إذا كان أبو لهب وهو الكافر يتفاخر
بنصرته للصنم، وفي جاهليته وبغيه على الضعيف، وصبره على باطله الذي قال الله عن
حاله وأمثاله: (إِن كَادَ
لَيُضِلُّنَا عَنْ آلِهَتِنَا لَوْلَا أَن صَبَرْنَا عَلَيْهَا) (الفرقان: 42)،
فماذا يقول الكرام أهل الحق والبذل؟! هل يقعد عزمهم عن إغاثة الملهوف، ونصرة
الضعيف، وإجابة الصريخ، والعون على نوائب الدهر؟
الضعيف الذي اجتمع عليه القهر والجوع
والمخمصة، يقع موقع النصرة في نفسه موقعاً يجدد الحياة فيه، لأن الرعب والخوف
والجوع الذي ينشأ من الحوائج لا يملأ القلب فحسب، بل يملأ الأحلام لسنين طويلة من
العمر الذاهب.
إن النصرة في لحظات الخذلان والعوز تفتح
آفاق الحياة وسط الخرائب والأنقاض، تماماً كما تتفتح زهرة يتيمة خرساء وسط حقل
مهجور، والضعيف الذي يجتمع عليه الخوف والجوع يرفُّ قلبه من الوجع والحيرة، كأن
قطاةً عُلِّقت على قلبه من شدة الخفقان.
ولم أجد وصفاً للجوع كوصف عزيز ضياء وهو
يشرح الجوع في المدينة المنورة في الحرب العالمية الأولى وهجرتهم إلى الشام وما
صاحب ذلك كله من أحداث: «الجوع الذي يجعل المرء يمشي في الشارع أو الزقاق لا ينظر
إلى ما حوله أو أمامه، وإنما ينظر إلى الأرض وحدها حيث يتحرى العثور على كسرة خبز
أو حبة فاكهة أو عظمة، فلا يكاد يرى ما يبحث عنه فيركض لالتقاط ما رأى حتى تكون
الهياكل العظمية السائرة في الطريق نفسه قد مدت أيديها تتنازع كسرة الخبز أو حبة
الفاكهة العطنة أو العظمة التي زهدت فيها الكلاب، ويبلغ النزاع أو الصراع أوجه
الأعلى حين تمتد الأيدي التي أخفقت في التقاط هذه اللقمة إلى فم الهيكل العظمي، وإلى
شدقه وما بين فكيه تستخرج منه ما بقي، ولو أدى ذلك إلى شق الشدقين وتمزيقهما» (حياتي،
عزيز ضياء).
منطق القوة
إن سورة «الحشر» تسترعي سمعك، وتأخذ
بذهنيتك لتفهم الطبيعة المخذولة لليهود ومن تبعهم، فهم لا يعرفون إلا منطق القوة، ولا
يخضعون إلا مع الردع، ولا تنتزع منهم الحقوق إلا بالقوة والغلبة، أما الموادعة
والمداهنة واختيار التهدئة والاستقرار ما هو إلا سراب بقيعة يحسبه الظمآن ماء، حتى
إذا جاءه لم يجده شيئاً!
ذهب رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى
بني النضير يفاوضهم في دية القتيلين، فتآمروا عليه، وتعاهدوا على قتله بأن يلقوا
بصخرة كبيرة من فوق الحائط على رأسه الشريف صلى الله عليه وسلم، وقد أفصح الوحي له
خبرهم وكشف له سوء طويتهم، فحاصرهم النبي صلى الله عليه وسلم، وكتب الله عليهم
الجلاء.
والاستعطاف اليهودي بعد الغدر عادة أصيلة
ومذهب متجذر في العقلية اليهودية، فها هم بعد غدرهم بالنبي صلى الله عليه وسلم يوم
«الخندق» واصطفافهم مع المنافقين، يخرجون بالرجال والنساء والأطفال يستعطفون
ويبكون، ذهب إليهم أبو لبابة فسألوه عن نية صاحبه فقال: «وأشار إلى عنقه بالذبح»،
وهو الذي يقول: «فوالله ما وضعت يدي حتى أدركت أني خنت الله ورسوله» (تهذيب سيرة
بن هشام).
إذا كان هذا الرجل البدري الكريم الذي
اقتطع له رسول الله صلى الله عليه وسلما سهماً وعدَّه من الشهداء يوم «بدر» يقول
مثل هذا، فماذا عساه يقول صاحب المداهنة والملاطفة مع هؤلاء الأوباش الخائنين، والذي
يجاملهم ويواليهم ويسعى فيهم، بل يتنازل من أجل إرضائهم، وستظل سارية أبي لبابة
سارية التوبة التي ربط بها نفسه في روضة مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم شاهد
عز وفخار وتوبة وصفاء على صدقه وإيمانه وولائه الصادق لله وللرسول صلى الله عليه
وسلم، كما ستظل سواري الخونة شاهدة عليهم في قادم الأيام والأعوام، ما تجددت صفحات
التاريخ وما كتبت سطور على رقعة الزمن.
ولقد دعا رسول الله صلى الله عليه وسلم
صاحبه سعداً بن معاذ رضي الله عنه وقد ضرب له خيمة بجوار المسجد قريباً منه ليزوره،
دعاه ليحكم على بني قريظة، فحكم بهم بحكم الله من فوق سبع سماوات.
لقد تنبه آرثر ليستر، في كتابه المهم «القبيلة
الثالثة عشرة»، الذي يفصح فيه عن سلالة انتماء الصهاينة لقبيلة الخزر، وما الدوافع
الباعثة لحقدهم على الديانة اليهودية والإسلام: «هؤلاء لا يعرفون الدين الذي جاء
به موسى ومن بعده محمد، إنما يعرفون الحيلة الواحدة في سبيل الغاية مهما اتفقت، وبمجرد
التصدي لهؤلاء تراكضوا إلى الاحتماء بالسامية، وأن الذي يواجههم هو عدو للسامية، وهم
قطعاً لا يعرفون هذا المرجع ولم يرتبطوا به».
وهنا نستحضر مقولة اليهودي العربي آفي
شلايم: «كان الهدف الأساسي للصهيونية على أرض فلسطين واضح المعالم، ولقد بُحَّت
الأصوات التي حذرت من الكارثة التي حلت عام 1948م، لقد حولت الصهيونية معظم
الفلسطينيين إلى لاجئين واقتلعتهم من أرضهم» (العوالم الثلاثة، مذكرات يهودي عربي).
إن التاريخ والشواهد والأحداث تخبر يقيناً
أن زرع هذا الكيان البغيض في خاصرة الشام لا يجعله يستريح ولا يهنأ ولا ينتهي الدم
فيه ما دامت هذه الجرثومة السامة تذهب في أعماق جسده، كدابة الأرض تأكل منسأة
العيش الإنساني الرغيد.