رمضان في المهجر.. فرصة ربانية للحفاظ على الهوية

يمثل شهر رمضان، بما يحمله من روحانية، موسما عظيما
في حياة عموم المسلمين، حيث يعزز مقصد التقوى، إضافة إلى الترابط الأسري
والاجتماعي، لكنه بالنسبة للمسلمين في بلاد المهجر يعد فرصة من نوع خاص للحفاظ على
هوية الأبناء والبنات، خاصة من الجيلين الثاني والثالث، وهي الهوية التي تواجه
تحديا مضاعفا في ظل بيئات لا تعكس مظاهر الإسلام عموما، فضلا عن مظاهر الشهر
الفضيل.
إن الحياة في بلاد المهجر تضع الأسر المسلمة أمام
عقبات اجتماعية خلال رمضان، إذ يجعل الاختلاف الثقافي الشهر يمر دون مظاهر
احتفالية كالأذان العلني أو إغلاق المطاعم نهارا، ما يشعر أبناء المسلمين بالعزلة،
حيث يضطرون للجلوس في مقاصف المدارس والجامعات بينما زملاؤهم يتناولون الطعام، كما
أن شرح مفهوم الصيام لهم في بيئة لا تمارسه يتطلب جهدا إضافيا، خصوصًا مع طول
ساعات الصيام في بلدان مثل شمال أوروبا، التي قد تصل إلى 18 ساعة صيفا.
وفي تقديري أن هذا التحدي يتطلب من الآباء والأمهات
في المهجر جهدا مضاعفا لخلق بيئة رمضانية داخل المنزل، سواء عبر إعداد مائدة إفطار
تحاكي التقاليد أو قراءة القرآن مع الأطفال، إضافة إلى دور المراكز الإسلامية هناك
في تعويضهم عن بعض العادات التي يفتقدونها.
اقرأ أيضا: رمضان حول العالم.. 20 ركعة في ألمانيا وإفطار جماعي في أستراليا
مثل هذه المبادرات ضرورية لأنها تحول التجربة الفردية
إلى أخرى جماعية تطبق الوصية الشريفة في الحديث النبوي: «من
فطر صائما كان له مثل أجره غير أنه لا يُنقص من أجر الصائم شيئا»
(رواه الترمذي)، وتشارك في تعزيز إحساس أبناء المسلمين بالانتماء وتعلمهم قيمة
التكافل.
عقبات نفسية
من زاوية اجتماعية، لا يخلو التحدي أمام أبناء
المسلمين في المهجر من عقبات نفسية، فالأبناء والبنات في المهجر يشعرون كثيرا
بالعزلة، خاصة إذا كانوا الوحيدين بين أقرانهم الذين يصومون، وهو ما أشار إليه
تقرير نشرته دويتشه فيله عام 2018 مشيرة إلى أن كثيرا من أبناء المسلمين في المهجر
يواجهون صعوبة في تفسير صيامهم لزملائهم غير المسلمين.
ومع ذلك، فهذه التجربة، رغم صعوبتها، قد تكون فرصة
لتنمية شخصية قوية قادرة على التعبير عن هويتها بثقة، بشرط دعم الآباء والأمهات
لأبنائهم وبناتهم نفسيا لتجنب أي شعور بالاغتراب، في إطار استحضار دائم لشعور
المسؤولية الذي أكد عليه النبي صلى الله عليه وسلم في قوله: «كُلُّكُمْ
رَاعٍ وَكُلُّكُمْ مَسْؤولٌ عَنْ رَعِيَّتِهِ»
(رواه البخاري).
وهناك جانب آخر يستحق النظر في رأيي، وهو تأثير
التكنولوجيا على تجربة الأطفال في رمضان، ففي عصرنا الحالي أصبح بإمكان العائلات
في المهجر التواصل مع أقاربهم في بلدانهم الأصلية عبر الفيديو، وحضور دروس دينية
عبر الإنترنت، ما يعني أن استخدام الوسائل الحديثة يمكن أن يكون عاملا مساعدا
لحماية هوية أبناء المسلمين، إذا ما جرى توظيفها من أولياء الأمور والمؤسسات
الإسلامية بالشكل الأمثل.
اقرأ أيضا: طريقك للانفتاح والتعايش في المهجر
وعلى سبيل المثال، من شأن سماع أبناء المهجر للأذان
من بلدهم الأم عبر الشاشة أن يعزز شعورهم بالانتماء، لكن الحذر ضروري من الإفراط
في الاعتماد على التكنولوجيا واجب، لأنها قد تحول التجربة الروحانية إلى مجرد حدث
افتراضي يفقد عمقه.
فالاستخدام الوسطي للتكنولوجيا التي تقدم حلولا
مبتكرة، وتطبيقات مثلRamadan Legacy تقدم
محتوى تعليميا للأطفال عن الشهر الفضيل، والتواصل عبر مكالمات الفيديو مع الأجداد
في البلد الأصلي بما يحافظ على الروابط العائلية، كلها عوامل تصب في برنامج عمل من
شأنه إزالة أي تأثير بالعزلة والاغتراب عن أبناء المهجر.
الأصالة
والمعاصرة
إن تجربة رمضان لأطفال المهجر ليست مجرد حكاية قصص
لهم عن الصيام والإفطار، بل هي رحلة تتشابك فيها الهوية والروحانية والتحديات
اليومية، والشهر الكريم فرصة لخلق جيل يجمع بين الأصالة والمعاصرة، قادر على حمل
رسالة الإسلام بوعي وثقة، شريطة الاستجابة لتحديات البيئة والأخذ بأسباب التأثير
فيها وليس التأثر بها.
وأنصح في هذا الإطار بضرورة تعاون الأسرة في تهيئة
المنزل بزينة رمضان، كالفوانيس واللافتات، لخلق أجواء احتفالية تجذب أبناء المهجر
داخل بيوتهم، ولتحقيق المظاهر الرمضانية المفقودة خارج منازلهم، إضافة إلى ضرورة
تنظيم إفطارات جماعية مع عائلات مسلمة أخرى، بما يعزز الانتماء الاجتماعي.
كما أن المشاركة في أنشطة المساجد، كحلقات القرآن، من
أهم ما يربط أبناء المهجر بمجتمعهم الديني، إضافة إلى بعض العادات الاجتماعية
الحميدة، مثل تحضير بعض الأطباق التقليدية وقت الإفطار ومشاركته مع باقي العائلات
المسلمة، وغيرها من الأنشطة التي تعزز ارتباط الأبناء والبنات بجذورهم، مما يحقق
توازنا بين الهوية والانفتاح.
الحفاظ على الهوية لا يعني الانعزال، وتعليم الأطفال
شرح الصيام لأصدقائهم بطريقة ودية، كقول: أصوم لأقترب من الله.. يعزز ثقتهم
بأنفسهم، وتشجيعهم على مشاركة حلويات العيد أو تقديم عرض عن رمضان في المدرسة يفتح
حوارا ثقافيا فريدا، ويمثل فرصة ثمينة للدعوة إلى الإسلام العظيم.
من شأن ذلك أن يمثل تعويضا لأبناء المهجر عن نقص
الأجواء الإيمانية في بيئتهم المحيطة، وهو ما أشارت إليه دراسة نشرها الدكتور خالد
حنفي، عميد الكلية الأوروبية للعلوم الإنسانية ورئيس لجنة الفتوى بألمانيا، عام
2022، والتي رصدت انخفاضا ملحوظا في مستوى التدين بين أبناء الجيلين الثاني
والثالث مقارنة بآبائهم من الجيل الأول (المهاجرين الأوائل)، بسبب صعوبة الاندماج
في المجتمعات الغربية، والتعرض لثقافات وأفكار تتعارض مع قيم الإسلام.
إزاء ذلك، يعد رمضان فرصة ربانية ذهبية لتعزيز الهوية
الإسلامية للأبناء والبنات في المهجر، إذا استثمرته الأسر بحكمة، وجعلت منه تجربة
ممتعة عبر إبداع وتفاعل يضمن استمرارية ارتباط الشهر الكريم بأجواء إيمانية
واجتماعية إيجابية.