رمضان كريم

الصائم يوفي أجره بغير حساب، ولما كان الصوم سرًا بين العبد وربه: إذ لا يطلع على صدق العبد في هذا غير خالقه، كان الثواب والأجر عليه لا يدخل تحت القاعدة التي يحاسب الناس بها «الحسنة بعشر أمثالها» كما يقول عليه السلام «رواه البخاري»، إنما الذي يقدر أجر الصائم هو الله وحده، يقول عليه السلام فيما يرويه عن ربه «كل عمل ابن آدم له إلا الصوم فإنه لي وأنا أجزي به» «حديث قدسي رواه البخاري في صحيحه» ذلك إن الصوم من الصبر، والصابرون يوفون أجورهم بغير حساب، وقد كان السلف يسمون شهر الصوم شهر الصبر.

الصيام يمنع من الذنوب

والصيام جنة ووقاية، يقي العبد الذنوب والمعاصي، والبغيض من الكلام والسيئ من الفعال، وبذلك يتقي العبد النار يقول الرسول عليه السلام: «والصيام جنة وإذا كان يوم صوم أحدكم فلا يرفث ولا يجهل ولا يصخب» «رواه البخاري» والرفث الفاحش من الكلام، والنهي عن الجهل نهي عن أفعال أهل الجهل، كالصياح والسفه والتعدي، فالصيام حصن منيع، يحصن الإنسان من الشيطان وخطواته، ويمنع صاحبه من أن ينزلق في الأقذار والأرجاس، ويبالغ الرسول عليه السلام في توجيه الصائم إلى الأمثل والأفضل حين يأمره بأن لا يرد السيئة بمثلها إذا ما أسيء للقائم بالصيام يقول عليه السلام: «وإن امرؤ قاتله -أي الصائم- أو شاتمه فليقل: إني امرؤ صائم مرتين» «البخاري» وبذلك يتبين لنا مدى الخطأ الذي يقع فيه كثير من المسلمين باعتقادهم أن الصوم يبرر الخطأ، وضيق الصدر مهما كانت الأسباب، بحجة الصيام، فكم سمعنا من قائل يقول لمن أصابه ضرر من أحد الصائمين دعه فإنه صائم» وهذا خطأ بين فاحش ناشئ من الجهل بدين الله.

حكمة بالغة للناظر المعتبر

في خلال العام يتعود الجسم على وجبات معينة من الطعام يتناولها، وهو يطلب الماء كلما أحس بحاجة إليه، وهو يواقع زوجته في الأوقات التي أباحها الله وهذا الألف متى طال أمده فإنه يعيد الإنسان لهواه وشهوته وينسيه الغاية التي خلقه الله من أجلها، والتي من أجلها أوجد له الطعام والشراب كي يستعين به على طاعة الله، فإذا أصبحت هذه الأمور من طعام وشراب ونكاح هم العبد وشاغله، أسرته وأذلته وصار عبدًا لها، وبذلك يتحقق فيه قول الرسول عليه السلام: «تعس عبد الدينار تعس عبد الدَّرْهم تعس وانتكس وإذا شيك فلا انتكش».

وما أحسن ما قاله العلامة المناوي في كتابه فيض القدير موضحًا هذه الحكمة البديعة: «إنما شرع الصوم كسرًا لشهوات النفوس وقطعًا لأسباب الاسترقاق والتعبد للأشياء، فإنهم لو داوموا على أغراضهم لاستعبدتهم الأشياء وقطعتهم عن الله، والصوم يقطع أسباب التعبد لغيره، ويورث الحرية من الرق للمشتهيات؛ لأن المراد من الحرية أن يملك الأشياء ولا تملكه لأنه خليفة الله في ملكه فإذا ملكته فقد قلب الحكمة وصير الفاضل مفضولا والأعلى أسفل؛ (قَالَ أَغَيْرَ اللَّهِ أَبْغِيكُمْ إِلَٰهًا وَهُوَ فَضَّلَكُمْ عَلَى الْعَالَمِينَ) (الأعراف: 140) والهوى إله معبود والصوم يورث قطع أسباب التعبد بغيره» أ.هـ كلام المناوي.

ففي هذا الشهر يخرج الإنسان عن ألفه وعاداته ومحبوبات نفسه، وتغيير هذا الألف والعادة وإن كان يشق على النفس، فإنه ينفعها ويفيدها، (وَعَسَىٰ أَن تَكْرَهُوا شَيْئًا وَهُوَ خَيْرٌ لَّكُمْ ۖ وَعَسَىٰ أَن تُحِبُّوا شَيْئًا وَهُوَ شَرٌّ لَّكُمْ ۗ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنتُمْ لَا تَعْلَمُونَ) (البقرة: 216)، (وَأَن تَصُومُوا خَيْرٌ لَّكُمْ ۖ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ) (البقرة: 184)، والصيام يقوي العزيمة، ويفيد في التخلص من كثير من الأمراض الفتاكة، فنرى كثيرًا من الأطباء يعالجون كثيرًا من الأمراض حتى المستعصية بالصوم، وقد جرب بعض من نفعهم التداوي بالصوم فنفعهم ذلك.

طيب ريح فم الصائم

ومن عجائب الصوم وفضائله أن ما يكرهه الناس من ريح فم الصائم: يكون عند الله طيبًا محبوبًا «والذي نفسي بيده لخلوف فم الصائم أطيب عند الله من ريح المسك» «حديث صحيح رواه البخاري» ومن تكريم الله للصائمين أن خصهم الله سبحانه بباب خاص بهم لا يدخل منه أحد غيرهم يقول عليه السلام «إن في الجنة بابا يقال له الريان، يدخل منه الصائمون يوم القيامة لا يدخل منه أحد غيرهم فإذا دخلوا أغلق فلم يدخل منه أحد» البخاري.

ولذلك كان شهر رمضان خير الشهور والعمل فيه أفضل من العمل في غيره، فإذا قدم هذا الشهر «فتحت أبواب الجنة -وفتحت أبواب السماء وأغلقت أبواب جهنم وسلسلت الشياطين» رواهما البخاري- وسلسلة الشياطين جسم لمادة الشر، وبذلك يتلمس القلب طريقه إلى النور والهدى بخلو المانع، وهذا من سر كثرة أوبة الضالين في هذا الشهر.

الأعذار المبيحة للفطر

(فَمَن كَانَ مِنكُم مَّرِيضًا أَوْ عَلَىٰ سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِّنْ أَيَّامٍ أُخَرَ) (البقرة: 184).

الفرق بين تشريع وتشريع

إن الفرق بين تشريع البشر وتشريع خالق البشر، كالفرق بين البشر وبين خالقهم، فلذلك يأتي تشريع الناس للناس تشريعًا ناقصًا معوجًا، مفرطًا حينًا ومفرطًا أحيانًا، يصيب الحقيقة مرة ويخطئها مرات لا تحص، ذلك لأن البشر يتصفون بصفات النقص، (وَاللَّهُ أَخْرَجَكُم مِّن بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ لَا تَعْلَمُونَ شَيْئًا) (النحل: 78) وعلمهم الذي يدركونه فيما بعد علم جزئي محدود يحتاج دائمًا إلى تغيير وتحوير وتبديل وتطوير، أما تشريع الله فهو تشريع کامل كاف عادل، لأن الله يتصف بصفات الكمال، فهو العلم الذي يشرع للبشر ما يصلحهم، وينهاهم عما يفسدهم، بناء على علمه المحيط الشامل، وهو عادل لا يشرع لحساب طبقة من الناس دون أخرى، بل الناس سواسية في ميزان الحق، يتفاضلون بالتقوى والعمل الصالح، وهو الحكيم الذي يضع الأمور في مواضعها، فلذلك جاء تشريعه وافيًا باحتياجات يطرأ عليه من أحوال تؤثر فيه، وهكذا نجد الله يرخص لنا في الفطر في حال السفر والمرض على أن نقضي عدة الأيام التي  أفطرناها بعد انقضاء رمضان وبعد أيبة المسافر وبرء المريض، ونلمح السماحة واليسر في هذا التشريع واضحًا جليًا في هاتين الحالتين؛ (يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلَا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ) (البقرة: 185)، وإن وجد المسافر قدرة على الصيام وأحب ذلك فله أن يصوم، فقد روى البخاري عن عائشة رضي الله عنها أن حمزة بن عمرو الأسلمي قال للنبي صلى الله عليه وسلم: «الصوم في السفر؟ وكان كثير الصوم  قال: إن شئت فصم وإن شئت فأفطر» وهكذا كان الرسول عليه السلام وصحابته يصومون في السفر ويفطرون، روى ابن عباس: «أن الرسول عليه السلام عندما خرج إلى مكة صام حتى بلغ الكديد أفطر فأفطر الناس» رواه البخاري، وإذا كان الصوم يشق على الإنسان في السفر وأحب أن يصوم فله ذلك إن لم يمنعه عن الصيام بما يجب عليه من أعمال، روى البخاري عن أبي الدرداء قال: «خرجنا مع النبي صلى الله عليه وسلم في بعض أسفاره في يوم حار حتى يضع الرجل يده على رأسه من شدة الحر وما فينا صائم إلا ما كان من النبي صلى الله عليه وسلم وابن رواحة» رواه البخاري، فإن أدى الصيام بالمرء إلى إضعاف وإنهاك قواه واحتياجه إلى غيره في أموره فالأفضل في حقه الفطر، فقد كان النبي صلى الله عليه وسلم في سفر ورأى زحامًا ورجلًا قد ظلل عليه فقال: «ما هذا فقالوا: صائم، فقال: ليس من البر الصوم في سفر» رواه البخاري.

وروى البخاري عن ابن عباس رضي الله عنه قال: «خرج النبي صلى الله عليه وسلم في رمضان والناس صائم ومفطر فلما استوى على راحلته دعا بإناء من لبن وماء فوضعه على راحلته ثم نظر الناس» وفي رواية أخرى له عن ابن عباس «ثم دعا بماء فشرب نهارًا ليراه الناس» ولمسلم عن جابر رضي الله عنه أن الرسول عليه السلام «قيل له إن الناس شق عليهم الصيام وإنما ينظرون فيما فعلت فدعا بقدح من ماء بعد العصر» وله من وجه آخر عن جعفر «ثم شرب فقيل له بعد ذلك إن بعض الناس قد صام فقال أولئك العصاة» وهذا يدلنا أن للمسافر أن يفطر في أثناء النهار ولو استهل رمضان في الحضر والحديث نص في الجواز إذ لا خلاف أنه صلى الله عليه وسلم استهل رمضان في عام غزوة الفتح وهو بالمدينة، ثم سافر في أثنائه، وقد كان الرسول عليه السلام يعزم على أصحابه أن يفطروا في السفر في الجهاد عند القرب من العدو، فقد روى مسلم عن أبي سعيد «سافرنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى مكة ونحن صيام فنزلنا منزلًا فقال النبي صلى الله عليه وسلم: إنكم قد دنوتم من عدوكم والفطر أقوى لكم فأفطروا فكانت رخصة فمنا من صام ومنا من أفطر، فنزلنا منزلًا فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إنكم مصبحو عدوكم فالفطر أقوى لكم فأفطروا فكانت عزيمة فأفطرنا ثم لقد رأيتنا نصوم مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في السفر» وهذا السبب الذي من أجله نسب الرسول عليه السلام والصائمين إلى العصيان حين عزم عليهم فخالفوا.

نوع السفر والمرض الذي يباح الفطر بهما

يجب أن نعلم أن المرض الذي يجوز الفطر به هو المرض الذي يزيد بالصوم أو يتأخر برؤه به، أما المرض الذي لا يؤثر فيه الصوم فلا يجوز لصاحبه الفطر، والسفر الذي يجوز فيه الفطر هو السفر المباح، أما سفر المعصية فليس مبيحًا الفطر.

الصيام بعد تيسر سبل المواصلات

وقد يتوهم البعض أن الفطر في هذه الأيام في السفر غير جائز أوانه خلاف الأولى، بسبب تيسر المواصلات، وتوفر سبل الراحة فيها، فهؤلاء نذكرهم بقول الله تعالى (وَمَا كَانَ رَبُّكَ نَسِيًّا) (مريم: 64)، وبقوله: (وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنتُمْ لَا تَعْلَمُونَ) (آل عمران: 66) فتشريع الله للناس تشريع دائم لا يختص بجزء من الأمة دون بقية الأمة، ولا بزمن دون زمن، ولا بمكان دون مكان، ذلك أن منزل هذا الشرع هو خالق الإنسان والزمان والمكان العليم الخبير الذي يعلم حاجة الناس ومن يصلحهم ويصلح لهم، وقد يوضح هذا الأمر ما نشره بعض الباحثين الخبراء: من أن انتقال الجسم المفاجئ السريع من بلد إلى بلد له تأثير سيئ على الجسم، وقد يفقد الإنسان قواه لحين من الوقت ويؤثر على حواسه، أسوق هذا لنعلم أنه قد يكون وراء تشريع الله من الحكم ما لا نعرفه، ثم قد يتكشف لنا أو لا يتكشف، فلا يجوز أن نخضع أحكام الله لآرائنا وعقولنا، بل يجب أن يكون موقفنا كما قال الله تعالى: (وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلَا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْرًا أَن يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ ۗ وَمَن يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ ضَلَّ ضَلَالًا مُّبِينًا) (الأحزاب: 36).

الحائض والنفساء

ومن الذين رخص الله لهم الفطر في رمضان الحائض والنفساء، ولكن يجب عليهما الفطر ولا يباح لهما الصوم بحال حتى تطهرا فمتى طهرتا صامتا، وقد صح عن النبي صلى الله عليه وسلم من حديث أبي سعيد الخدري «أليس إذا حاضت لم تصم ولم تصل فذلك نقصان دينها» رواه البخاري ورواه مسلم من حديث ابن عمر «تمكث الليالي ما تصلي وتفطر في رمضان فهذا نقصان الدين» وعلى الحائض والنفساء قضاء عدة ما أفطرتاه بعد انقضاء رمضان.

الحامل والمرضع

وممن يلحق بالمريض الحامل والمرضع إذا خافتا على نفسيهما أو ولديهما أو شق عليهما الصوم فلهما الفطر وعليهما قضاء عدة ما أفطرتاه، وحصل الخلاف بين العلماء هل عليهما شيء آخر غير القضاء؛ فمن العلماء من أوجب عليهما أن يطعما مسكينًا عن كل يوم أفطرتاه، ومن ذهب إلى وجوب الإطعام مع صيام عدة أيام فليس لديه دليل يوجب الإطعام.

الكبير الهرم والمريض المزمن

ويلحق بالمريض أيضًا الشيخ الكبير الذي لا يستطيع الصوم، ولكن لا يجب عليه القضاء ولا على المريض الذي لا يرجى برؤه؛ لأنهما لا يصيران إلى حال تمكنهما من الصيام، وهل يجب عليهما الإطعام عدة الأيام؟

صح النقل بذلك عن ابن عباس ورواه البخاري عن أنس من فعله إذ كان يفطر لكبره ويطعم عن كل يومًا مسكينًا.

من أكل أو شرب ناسیًا فلیتم صومه

الإنسان مخلوق ضعيف، ولذلك يقع منه الخطأ أحيانًا ويتنكب جادة الصواب أحيانًا أخرى لتغلب هوى النفس، والله يعلم ذلك من الإنسان (وَخُلِقَ الْإِنسَانُ ضَعِيفًا) (النساء: 28).

وقد يقع الخطأ من الصائم فيأكل أو يشرب ناسيًا ولا إثم عليه في ذلك «إن الله عفا لي عن أمتي الخطأ والنسيان وما استكرهوا عليه» ولا يفسد صومه بهذا النسيان يقول عليه السلام «إذا نسي فأكل وشرب فليتم صومه فإنما أطعمه الله وسقاه» رواه البخاري.

أما من غلبته شهوته فأفطر متعمدًا فقد أتى جرمًا عظيمًا، وإن كان الفطر بجماع فعليه الكفارة، فقد روى أبو هريرة رضي الله عنه قال: «بيْنَما نَحْنُ جُلُوسٌ عِنْدَ النبيِّ صَلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ، إذْ جَاءَهُ رَجُلٌ فَقَالَ: يا رَسولَ اللَّهِ هَلَكْتُ. قَالَ: ما لَكَ؟ قَالَ: وقَعْتُ علَى امْرَأَتي وأَنَا صَائِمٌ، فَقَالَ رَسولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ: هلْ تَجِدُ رَقَبَةً تُعْتِقُهَا؟ قَالَ: لَا، قَالَ: فَهلْ تَسْتَطِيعُ أنْ تَصُومَ شَهْرَيْنِ مُتَتَابِعَيْنِ، قَالَ: لَا، فَقَالَ: فَهلْ تَجِدُ إطْعَامَ سِتِّينَ مِسْكِينًا. قَالَ: لَا، قَالَ: فَمَكَثَ النبيُّ صَلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ، فَبيْنَا نَحْنُ علَى ذلكَ أُتِيَ النبيُّ صَلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ بعَرَقٍ فِيهَا تَمْرٌ - والعَرَقُ المِكْتَلُ - قَالَ: أيْنَ السَّائِلُ؟ فَقَالَ: أنَا، قَالَ: خُذْهَا، فَتَصَدَّقْ به فَقَالَ الرَّجُلُ: أعَلَى أفْقَرَ مِنِّي يا رَسولَ اللَّهِ؟ فَوَاللَّهِ ما بيْنَ لَابَتَيْهَا -يُرِيدُ الحَرَّتَيْنِ- أهْلُ بَيْتٍ أفْقَرُ مِن أهْلِ بَيْتِي، فَضَحِكَ النبيُّ صَلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ حتَّى بَدَتْ أنْيَابُهُ، ثُمَّ قَالَ: أطْعِمْهُ أهْلَكَ» رواه البخاري.

فهذه القصة التي وردت في هذا الحديث تبين كفارة الجماع في رمضان.

أما من أفطر بطعام أو شراب متعمدًا فليس عليه كفارة الجماع خلافًا لمن يرى ذلك من العلماء والذي يدعونا إلى القول بهذا عدم ورود الدليل بإيجاب الكفارة بعمد الطعام والشراب، وقياسه على الجماع قياس مع الفارق مع أن القياس في العبادات لا يجوز.

ولكن هل يقضي يومًا مكانه أم لا؟ بلزوم القضاء قال سعيد بن المسيب والشعبي وابن جبير وإبراهيم وقتادة وحماد وعن أبي هريرة يرفعه «من أفطر في رمضان من غير عذر ولا مرض لم يقضه صيام الدهر وإن صامه به» رواه البخاري تعليقًا وغير الجماع من مباشرة وتقبيل لا تفسد الصوم، فهذه عائشة رضي الله عنها تروي لنا «أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يقبل ويباشر وهو صائم وكذلك روت أم سلمة أن الرسول عليه السلام كان يفعل ذلك» رواه البخاري.

وأما إن جامع في رمضان فطلع عليه النهار ولم يغتسل فصيامه صحيح روى البخاري عن عائشة أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يدركه الفجر في رمضان من غير حلم فيغتسل ويصوم.

ويجوز للصائم المضمضة، والاستنشاق، والاغتسال، والتطيب، والتكحل، فقد روى عامر بن ربيعة قال: «رأيت النبي صلى الله عليه وسلم: يستاك وهو صائم ما لا أحصي أو أعد».

وقد أمر الرسول عليه السلام بالسواك عند كل صلاة، ورغب في الإكثار من استعماله، ولم يأت دليل يخصص رمضان وينهي عن استعمال السواك فيه، وقد يحتج بعض من يرى عدم جواز استعمال السواك بالحديث الذي يرويه البخاري:

«ولخلوف فم الصائم عند الله أطيب من ريح المسك»، بحجة أن السواك يذهب هذا الخلوف، ويكفي في الإجابة على هذا الزعم، الحديث الآنف الذكر، الذي يقول فيه ربيعة بن عامر: «رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يستاك، وهو صائم ما لا أحصي أو أعد»، مع العلم أن هذه الرائحة مصدرها إنما هو المعدة، لا الفم والأسنان، وبذلك يثبت جواز استعمال السواك في رمضان، بل استحبابه، وقد يفرق بعضهم فيجيز استعماله قبل الزوال ويكرهه أو يمنعه بعد الزوال وهذا تفريق بغير مفرق يدل على التفريق.

وكذلك يقال بالنسبة للمضمضة والاستنشاق، لأن الرسول عليه السلام فعل ذلك وأمر بالاستنشاق بدون تفريق بین رمضان وبين غيره، وقال الحسن البصري لا بأس بالمضمضة والتبريد للصائم، وقال ابن مسعود إذا كان صوم أحدكم فليصبح دهينًا مترجلًا، ولم ير أنس والحسن وإبراهيم بالكحل بأسًا للصائم روى ذلك عنهم البخاري في صحيحة فإن دخل الماء إلى حلق الصائم بدون أن يملك له دفعًا فلا شيء عليه، روى البخاري ذلك عن عطاء، وصح عن الرسول أنه قال «إن الله عفى لي عن أمتي الخطأ والنسيان» وأما القيء: فيرى أبو هريرة أنه لا يفطر الصائم، لأنه يخرج ولا يولج، وبهذا يقول ابن عباس وعكرمة، ويرى فريق آخر من العلماء أن القيء عمدًا يفطر الصائم بخلاف من غلبه القيء فقاء.

الحجامة في الصيام

أما الحجامة: فنهى الرسول عليه السلام عنها، ثم رخص فيها عن أنس قال: «أول ما كرهت الحجامة للصائم: إن جعفر بن أبي طالب احتجم وهو صائم، فمر به النبي صلى الله عليه وسلم فقال: أفطر هذان، ثم رخص بعد بالحجامة فكان أنس يحتجم وهو صائم» رواه الدار قطني وذكر البخاري عن أنس أنه سئل أكنتم تكرهون الحجامة للصائم فقال لا. «والحجامة استخراج الدم الفاسد طلبًا للاستشفاء بجرح في الرأس ثم يمص هذا الجرح من قبيل الحاجم» وصح عن الرسول عليه السلام من رواية ابن عباس أنه عليه السلام احتجم وهو صائم، وذكر البخاري عن سعد وزيد ابن أرقم وأم سلمة أنهم احتجموا صيامًا، وذكر عن بكير عن أم علقمة قالت: كنا نحتجم عند عائشة فلا تنهى.


الرئيسية

مرئيات

العدد

ملفات خاصة

مدونة