سعد بن أبي وقاص.. أول من رمى بسهم في سبيل الله

حين يتعلق الأمر بالجهاد في سبيل الله، فلا بد من أن يذكر سعد بن أبي وقاص، وحين يتعلق بالشجاعة والإقدام وبدر الكبرى، فلا بد من أن يذكر ابن أبي وقاص، وأهل بدر الذين قال فيهم رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لَعَلَّ اللَّهَ عزَّ وجلَّ اطَّلَعَ علَى أهْلِ بَدْرٍ فَقالَ: اعْمَلُوا ما شِئْتُمْ فقَدْ غَفَرْتُ لَكُمْ" (من حديث للبخاري)، وحين يتعلق الأمر بالتاريخ والفتوحات، فلا بد من أيكون سعد حاضرا، وكيف لا، وهو أول من رمى بسهم في سبيل الله.

من هو سعد بن أبي وقاص؟

"هو سعد بن أبي وقاص، واسم أبيه وقاص مالك بن أهيب بن عبدمناف بن زهرة بن كلاب بن مرة بن كعب بن لؤي"(1)، والتحق سعد بقافلة المؤمنين بهذا الدين في وقت مبكر ليكون من أوائل المسلمين، وكان عمره سبعة عشر عاما، ليكون ثالث أو رابع من أسلموا بعد أبي بكر الصديق (وعلى يده)، وعلي بن أبي طالب، وزيد بن حارثة رضي الله عنهم أجمعين، ويقول هو عن نفسه: "وَلَقَدْ مَكَثْتُ سَبْعَةَ أَيَّامٍ، وَإِنِّي لَثُلُثُ الإِسْلاَمِ" (رواه البخاري)، وهو من العشرة المبشرين بالجنة، وقد ولد سعد في مكة سنة 23 قبل الهجرة، وكان أبوه من سادة العرب، اشتغل في صناعة السهام، وأتقن حياة الصيد، وكان حريصا على ملاقاة الحجاج لمعرفة ما يدور حوله في الجزيرة العربية في أيام الحج والمواسم الدينية، أبوه ابن سيد بني زهرة، يلتقي مع السيدة آمنة بنت وهب أم رسول الله صلى الله عليه وسلم في النسب، فهي ابنة عم أبيه، وأبوه خال حمزة وصفية ابني عبدالمطلب، فهو إذن من بني زهرة أهل أم النبي صلى الله عليه وسلم، وقد كان عليه الصلاة والسلام يفخر بأنهم أخواله، فقد ورد أنه كان جالسًا مع نفر من أصحابه فرأى سعد بن أبي وقاص مقبلاً، فقال لمن معه: «هَذَا خَالِي فَلْيُرِنِي امْرُؤٌ خَالَهُ» (رواه الترمذي)، وقد جرت محاولات عديدة من أهله ليثنوه عن دينه، حتى لجأت أمه للصوم التام عن الطعام والشراب حتى يعود عن دينه، وقد استمرت حتى كادت تهلك، فعن مصعب بن سعد، عن أبيه رضي الله عنه أنه نزلت فيه آياتٌ من القرآن؛ قال: "حَلَفَتْ أمُّ سعدٍ ألّا تكلِّمه أبدًا حتى يَكْفُرَ بدِينه، ولا تأكل ولا تشرب، قالت: "زَعَمْتَ أنَّ اللهَ وصَّاك بوالدَيْك، وأنا أمُّكَ، وأنا آمُرُكَ بهذا"، قال: مَكَثَتْ ثلاثًا، حتى غُشِيَ عليها من الجَهْد، فقام ابنٌ لها يقال له: عُمارة، فسقاها، فجعلت تدعو على سعد، فأنزل الله عزَّ وجلَّ في القرآن هذه الآية: (وَإِنْ جَاهَدَاكَ عَلَى أَنْ تُشْرِكَ بِي مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلَا تُطِعْهُمَا وَصَاحِبْهُمَا فِي الدُّنْيَا مَعْرُوفًا) (لقمان:15)" (رواه مسلم)، وقد كان سعد مستجاب الدعوة بعد أن دعا له رسول الله صلى الله عليه وسلم قائلا: «اللَّهُمَّ سَدِّدْ رَمَيْتَهُ، وَأَجِبْ دَعْوَتَهُ» (رواه الحاكم في مستدركه).

جهاد سعد بن أبي وقاص

في بدر كان سعد، وفي أحد كان سعد، وكان أول من رمى بسهم في سبيل الله، وهو الوحيد الذي افتداه رسول الله بأبويه ولم يفتد سواه بهما، ففي يوم أحد قال: «ارْمِ سَعْدُ فِدَاكَ أَبِي وَأُمِّي» (رواه الترمذي)، كما قال علي بن أبي طالب، وأما يوم القادسية فقد كان يوما مشهودا، حيث خرج في ثلاثين ألف مقاتل، وكان عدد الفرس أكثر من مائة ألف من المقاتلين المدججين بالسلاح والعتاد، كان يقودهم رستم، وانشغل سعد بقراءة رسالة أمير المؤمنين عمر رضي الله عنه يذكره فيها بالتواضع والخضوع لله: «يا سعد بن وهيب، لا يغرَّنَّك من الله أن قيل: خال رسول الله وصاحبه، فإن الله ليس بينه وبين أحد نسب إلَّا بطاعته، والناس شريفهم ووضيعهم في ذات الله سواء، الله ربهم، وهم عباده، يتفاضلون بالعافية، ويدركون ما عند الله بالطاعة، فانظر الأمر الذي رأيتَ رسول الله صلى الله عليه وسلم منذ بُعِثَ إلى أن فارَقَنَا عليه فالزمه؛ فإنه الأمر». ثم يقول له: «اكتب إليَّ بجميع أحوالكم، وكيف تنزلون، وأين يكون عدوُّكم منكم.. واجعلني بكتبك إليَّ كأني أنظر إليكم"(2).

أثناء المعركة تملك المرض من سعد رضي الله عنه حتى إنه عجز عن الجلوس من كثرة الجروح في جسده، ففضل أن يمتطي جواده ويخوض الحرب عن قعوده، فوقف وسط جيشه خطيبا مبتدئا بقول الله تبارك وتعالى: (وَلَقَدْ كَتَبْنَا فِي الزَّبُورِ مِنْ بَعْدِ الذِّكْرِ أَنَّ الْأَرْضَ يَرِثُهَا عِبَادِيَ الصَّالِحُون) (الأنبياء:105)، ثم استقبل جنوده وكبر أربعا ، ليهزم الفرس شر هزيمة ، لينتقل بعدها إلى المدائن، وبعد القادسية بعامين، استطاع الانتصار مرة أخرى على الفرس.

سعد في العراق(3)

في عهد الخليفة عمر بن الخطاب رضي الله عنه، والذي كان يتحرى الدقة في اختيار ولاته على الأمصار، اختاره لولاية الكوفة، فعمل فيها سعد ليل نهار بما يرضي الله ورسوله، بناءً وعدلا، لكنهم كانوا قوما لا يحسنون استقبال الصالحين، فاشتكوه لأمير المؤمنين عمر بأنه لا يحسن الصلاة، فاستدعاه خليفة المسلمين إلى المدينة، فعاد سعد من فوره، ليضحك حين يسمع الشكوى ويقول: «والله إني لأُصَلِّي بهم صلاة رسول الله، أُطيل في الركعتين الأوليين وأقصر في الأخريين»، فيأمره عمر بالعودة إلى الكوفة، لكن سعدا يأبى قائلاً: «أتأمرني أن أعود إلى قوم يزعمون أَنِّي لا أُحسن الصلاة؟!»، وبعد أن طعن المجوسي خليفة المسلمين عمر بن الخطاب، كان سعد بن أبي وقاص من الستة الذين اختارهم عمر لخلافته لإمارة المسلمين، وقال عمر: إن وليها سعد فذاك، وإن وليها غيره فليستعن بسعد.

موقفه رضي الله عنه من الفتنة

كان سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه من الذين اعتزلوا الفتنة بين علي بن أبي طالب ومعاوية رضي الله عنهما، ورفض أن يخوض بسيفه في دماء المسلمين، وحين استقرت الأمور بيد معاوية سأل سعدا: «ما لكَ لَمْ تُقاتِل معنا؟»، فأجابه: «إني مررت بريح مظلمة، فقلتُ: أخ.. أخ.. واتَّخذت من راحلتي حتى انجلت عني»، فقال معاوية: «ليس في كتاب الله أخ.. أخ.. ولكن قال الله: (وَإِنْ طَائِفَتَانِ مِنَ المُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا فَإِنْ بَغَتْ إِحْدَاهُمَا عَلَى الْأُخْرَى فَقَاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي حَتَّى تَفِيءَ إِلَى أَمْرِ اللهِ) (الحجرات:9). وأنت لم تكن مع الباغية على العادلة، ولا مع العادلة على الباغية»، فأجابه سعد رضي الله عنه قائلاً: ما كنتُ لأقاتل رجلاً قال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: «أَنْتَ مِنِّي بِمَنْزِلَةِ هَارُونَ مِنْ مُوسَى، إِلَّا أَنَّهُ لَا نَبِيَّ بَعْدِي" (رواه البخاري ومسلم).

وفاة سعد بن أبي وقاص

كان عمر سعد بن أبي وقاص طويلًا، وأفاء الله عليه من المال الكثير؛ لكنه حين أدركته الوفاة دعا بجبة من صوف بالية، وقال: «كفنوني بها؛ فإني لقيت بها المشركين يوم بدر، وإني أريد أن ألقى بها الله عز وجل أيضًا». وكان رأسه بحِجْر ابنه الباكي، فقال له: "ما يُبكيك يا بني؟! إن الله لا يُعَذِّبني أبدًا، وإني من أهل الجنة".

لقد كان إيمانه بصدق بشارة رسول الله صلى الله عليه وسلم كبيرًا، كانت وفاته سنة خمس وخمسين من الهجرة النبوية، وكان آخر المهاجرين وفاة، ودُفِن في البقيع"(4)، رحم الله سعدا، وتقبل جهاده.

______________________

(1) سير أعلام النبلاء.

(2) موقع قصة الإسلام للدكتور راغب السرجاني.

(3)  الدكتور راغب السرجاني.

(4) طبقات ابن سعد تحقيق/ محمد عبدالقادر عطا.