سعد بن معاذ.. قوة القيادة تتجلى في الأصالة وتطبيق المبادئ

د. سليمان صالح

05 مايو 2024

3849

دراسة مواقف القادة في التاريخ الإسلامي تفتح لنا آفاقاً جديدة لتطوير علم القيادة؛ فسيرة كل قائد يمكن أن تقدم لنا درساً مهماً يسهم في إعداد القيادات، وتأهيلها لبناء المستقبل.

وسيرة الصحابي الجليل سعد بن معاذ رضي الله عنه تؤكد لنا أن القائد يمكن أن يقوم خلال فترة قصيرة في حياته بدور مهم يضيء للأمة الطريق، بينما يعيش الكثيرون زمناً طويلاً لا يتركون فيه أثراً، ولا يذكرهم التاريخ، لذلك يمكن أن يقوم الإنسان بعملٍ يشكّل للأمة نصراً، ويؤكد أن التمسك بالمبادئ وتطبيقها أهم مصادر القوة في لحظة تحتاج فيها الأمة لقيادة أصيلة قوية.

لذلك، يمكن أن نقدم لشبابنا جوانب من سيرة سيدنا سعد بن معاذ توضح لهم كيف يواجه القائد التحديات، ويبني رؤيته، وينطلق في الحياة بإيمانه قوياً عزيزاً، ويتخذ أصعب القرارات.

أصالة القائد والبحث عن الحقيقة

توضح قصة إسلام سعد بن معاذ أن القائد الأصيل يبحث عن الحقيقة بعقله وقلبه وخياله، ويلتزم عندما يعلم، ويضحي بكل ما يملك من أجل المبادئ التي يؤمن بها، فقد كان سعد سيد الأوس، وله مكانة مهمة في المدينة، وهو القدوة التي يتطلع لها الجميع.

لذلك كان إسلامه بداية مرحلة جديدة للدعوة الإسلامية في المدينة، فبمجرد أن أسلم؛ توجه إلى قومه قائلاً: يا بني الأشهل، كيف تعلمون أمري فيكم؟ قالوا: سيدنا وأفضلنا، قال: فإنَّ كلام رجالكم ونسائكم عليَّ حرامٌ حتى تؤمنوا بالله ورسوله؛ فما كان المساء حتى أسلموا جميعاً، وأصبحت دار سعد مقر الدعوة الإسلامية.

وهكذا ازداد الإسلام قوة بإسلام سعد، وانتشر في المدينة، فلم يبقَ فيها بيتٌ إلَّا ودخله الإسلام، وقد كان إسلام سعد بن معاذ نصراً كبيراً للإسلام وفتحاً مبيناً، وأشرقت شمس الإسلام في المدينة بإسلامه حتى أنارت قلوب الكثيرين، ثمَّ ظهر دور قبيلة بني عبد الأشهل لمَّا هاجر رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى المدينة، فاستقبلوا المهاجرين وقاسموهم أموالهم وممتلكاتهم.

وكانت قوة إيمان سعد تتجلى في دفاعه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قبل وصوله إلى المدينة، فلم يكن يجرؤ كافر على أن يذكر الرسول صلى الله عليه وسلم بسوء خوفاً من سعد، الذي كان شديد الحبّ لرسول الله صلى الله عليه وسلم.

في غزوة «بدر»

عندما التقت القلة المؤمنة بالكثرة الكافرة في «بدر»؛ كرر رسول الله صلى الله عليه وسلم دعوته للناس بأن يشيروا عليه، ففهم سعد بن معاذ أن الرسول صلى الله عليه وسلم يريد رأي الأنصار، فأعلن قراره الذي يعبر عن موقف الأنصار بقوة ووضوح؛ فقال: قد آمنا بك وصدقناك، وشهدنا أن ما جئت به الحق، وأعطيناك مواثيقنا عَلَى السمع والطاعة، فامض يا رسول الله لما أردت، فنحن معك، فوالذي بعثك بالحق، لو استعرضت بنا هذا البحر لخضناه معك، ما تخلف منا رجل واحد، وما نكره أن تلقى بنا عدونا غدًا، إنا لصبر عند الحرب، صدق عند اللقاء، لعل اللَّه يريك فينا ما تقر به عينك، فسر بنا عَلَى بركة اللَّه.

كان القرار يعبر عن إرادة الأنصار القوية، والتزامهم ببيعتهم مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكان من الواضح أن القرار جاء نتيجة لإدراك حقيقي لرأي الأنصار.

حكم سعد في بني قريظة

كان ليهود بني قريظة دور خطير في تجميع الأحزاب، لغزو المدينة والقضاء على المسلمين، فهم الذين دبروا المؤامرة، وخانوا عهدهم مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، وشكلوا تهديداً للمدينة، وأثاروا خوف المسلمين على بيوتهم ونسائهم وأطفالهم؛ الذين أصبحوا تحت حصار اليهود؛ الذين كانوا ينتظرون فرصة بداية المعركة بين المسلمين والأحزاب لسبي نساء المسلمين وقتل أطفالهم.

وأوضحت غزوة «الأحزاب» طبيعة اليهود في الغدر والخيانة ونقض العهود والتآمر؛ لذلك قرر الرسول صلى الله عليه وسلم معاقبة يهود بني قريظة على خيانتهم وتهديدهم للنساء في المدينة، فعندما انتهت غزوة الأحزاب حاصرهم الرسول صلى الله عليه وسلم 25 يوماً.

ولما يئس اليهود من فك الحصار طلبوا تحكيم سعد بن معاذ، فقد كانوا حلفاء له في الجاهلية؛ ولم يدركوا أن سعداً قد أصبح قائداً إسلامياً يطبق مبادئ الإسلام، وأن الإسلام يعتبر أن الخيانة جريمة يجب أن تتم معاقبة من يرتكبها، وأنهم يجب أن ينالوا جزاء غدرهم وخيانتهم وتهديدهم لنساء المسلمين في المدينة، وتلك قضية لا تخضع للمفاوضات أو الحلول الوسط.

كان سعد بن معاذ قد أصيب بسهم في غزوة «الأحزاب»، وكان جرحه عميقاً، لكنه لبى أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم، وعندما أقبل على المسلمين؛ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم للأنصار: «قُومُوا إلى سَيِّدِكُمْ، أوْ خَيْرِكُمْ»، فَقَالَ: «هَؤُلَاءِ نَزَلُوا علَى حُكْمِكَ»، فَقَالَ: تَقْتُلُ مُقَاتِلَتَهُمْ، وتَسْبِي ذَرَارِيَّهُمْ، قَالَ: «قَضَيْتَ بحُكْمِ اللَّهِ».

استشهاد سعد

لكن الأجل يقترب من سعد؛ فأتاه رسول الله صلى الله عليه وسلم فضمَّه إلى صدره ودعا له، فكانت هذه الكلمات برداً وسلاماً عليه، فرفع رأسه ووجّه بصره إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقال: السلام عليك يا رسول الله، أما إني لأشهد أنك رسول الله، فبشّره رسول الله صلى الله عليه وسلم بالخير، وروى جابر عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: «هذا الذي تحركَ له العرشُ، وفُتحتْ له أبوابُ السماءِ، وشهِدَه سبعونَ ألفًا من الملائكةِ».

وما أعظم هذا التكريم! وما أجمل تلك النهاية لحياة قائد كان إيمانه بالله مصدر قوته، وكانت مواقفه تشهد بشجاعته والتزامه بمبادئ الإسلام، وكان يحب رسول الله صلى الله عليه وسلم أكثر من نفسه!

والأمة الإسلامية تحتاج إلى قيادات تقرأ سيرة سعد بن معاذ بفهم ووعي لتتعلم كيف تقف بقوة مع الحق، وتطبق المبادئ بشجاعة، وتكون للناس قدوة.

لماذا احتل سعد بن معاذ هذه المكانة في تاريخ الإسلام؟! إن مواقفه تؤكد أن قوة الإيمان بالله أهم مؤهلات القيادة، فهي مصدر القوة والشجاعة والالتزام بالمبادئ؛ لذلك تجلت قوة سعد في كل المواقف التي تحتاج إلى شجاعة الرجال.


الرئيسية

مرئيات

العدد

ملفات خاصة

مدونة