سوء الظن من خصال الشر  

  • شاع بين المسلمين عامة، بل وبعض الإسلاميين، داء سوء الظن، فما علاجه في نظركم؟

- من المبادئ الأخلاقية المهمة في التعامل بين المسلمين عامة والإسلاميين خاصة إحسان الظن بالآخرين، وخلع المنظار الأسود عند النظر إلى أعمالهم ومواقفهم، فلا ينبغي أن يكون سلوك المؤمن واتجاهه قائماً على تزكية نفسه، واتهام غيره.

والله تعالى ينهانا عن أن نزكي أنفسنا فيقول: (هُوَ أَعْلَمُ بِكُمْ إِذْ أَنشَأَكُم مِّنَ الْأَرْضِ وَإِذْ أَنتُمْ أَجِنَّةٌ فِي بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ فَلَا تُزَكُّوا أَنفُسَكُمْ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنِ اتَّقَى) (النجم: 32).

ويذم اليهود الذين زكّوا أنفسهم وقالوا: إنهم أبناء الله وأحباؤه، فقال تعالى: (أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يُزَكُّونَ أَنفُسَهُمْ بَلِ اللّهُ يُزَكِّي مَن يَشَاءُ) (النساء: 49).

والمؤمن –كما قال بعض السلف– أشد حساباً لنفسه من سلطان غاشم، وشريك شحيح!

فهو أبداً متهم لنفسه لا يتسامح معها، ولا يسوغ لها خطأ ما، ويغلب عليه شعور التفريط في جنب الله، والتقصير في حقوق عباد الله.

وهو يعمل الخير، ويجتهد في الطاعة، ويقول: أخشى ألا يقبل مني، فإنما يتقبل الله من المتقين، وما يدريني أني منهم؟!

وهو في الجانب المقابل يلتمس المعاذير لخلق الله، وخصوصاً لإخوانه والعاملين معه لنصرة دين الله، فهو يقول ما قال بعض السلف الصالح: ألتمس لأخي من عذر إلى سبعين، ثم أقول: لعل له عذراً آخر لا أعرفه!

وإن من أعظم شعب الإيمان حسن الظن بالله، وحسن الظن بالناس، وفي مقابلهما سوء الظن بالله، وسوء الظن بعباد الله.

إن سوء الظن من خصال الشر التي حذر منها القرآن والسُّنة، فالأصل حمل المسلم على الصلاح، وألا تظن به إلا خيراً، وأن تحمل ما يصدر منه على أحسن الوجوه، وإن بدا ضعفها؛ تغليباً لجانب الخير على جانب الشر.

والله تعالى يقول: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اجْتَنِبُوا كَثِيراً مِّنَ الظَّنِّ إِنَّ بَعْضَ الظَّنِّ إِثْمٌ) (الحجرات: 12)، والمراد به: ظن السوء الذي لم يقم عليه دليل حاسم.

ويقول الرسول صلى الله عليه وسلم: "إياكم والظن، فإن الظن أكذب الحديث..".

والمفروض في المسلم –إذا سمع شراً عن أخيه– أن يطرد عن نفسه تصور أي سوء عنه، وألا يظن به إلا خيراً، كما قال تعالى في سياق حديث الإفك: (لَوْلَا إِذْ سَمِعْتُمُوهُ ظَنَّ الْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بِأَنفُسِهِمْ خَيْراً وَقَالُوا هَذَا إِفْكٌ مُّبِينٌ) (النور: 12).

صحيح أن سوء الظن من الأشياء التي لا يكاد يسلم منها أحد، كما روي ذلك في حديث ضعيف، ولكن يقويه ما ثبت في الصحيح من قول النبي صلى الله عليه وسلم لبعض أصحابه الذين رأوه في الاعتكاف يكلم امرأة في المسجد، فأسرعا الخطى، فقال: "على رسلكما، إنها صفية بنت حيي (زوجته)"، فقالا: وهل نظن بك إلا خيراً يا رسول الله؟ قال: "إن الشيطان يجري من ابن آدم مجرى الدم، وإني خشيت أن يقذف قلوبكما شراً".

ومع هذا ينبغي للمؤمن ألا يستسلم لوسوسة الشيطان في إساءة الظن بالمسلمين، بل عليه أن يلتمس لهم المعاذير والمخارج فيما يراهم أخطؤوا فيه، بدل أن يتطلب لهم العثرات والعيوب.

فإن من أبغض الناس إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأبعدهم منه مجلساً يوم القيامة، الباغين للبرآء العثرات.

فإذا كان العمل الصادر عن المسلم يحتمل وجهاً يكون فيه الخير، وعشرين وجهاً لا يكون فيها إلا الشر، فينبغي حمل هذا العمل على وجه الخير الممكن والمحتمل.

وإذا لم يجد وجهاً واحداً للخير يحمله عليه، فيجعل به أن يتريث، ولا يستعجل في تأن.

ولا تعجل بلومك صاحباً

لعل له عذراً وأنت تلوم!

ومما يجب التحذير منه ما يتصل باتهام النيات، والحكم على السرائر، وإنما علمها عند الله تعالى، الذي لا تخفى عليه خافية، ولا يغيب عنه سر ولا علانية.

وهذا مطلوب للمسلم أي مسلم، من عامة الناس، فكيف بالمسلم الذي يعمل للإسلام والذي ضم إلى الإسلام العام: الدعوة إليه، والغيرة عليه، والدفاع عنه، والتضحية في سبيله؟

ومن أجل هذا يعجب المرء غاية العجب، ويتألم كل الألم، إذا وجد بعض العاملين للإسلام يتهم بعضهم بالعمالة أو الخيانة، جرياً وراء العلمانيين وأعداء الإسلام، فيقول أحدهم عن الآخر: عميل للغرب أو للشرق أو للنظام الفلاني، لمجرد أنه خالفه في رأي أو في موقف، أو في اتخاذ وسيلة للعمل مخالفة له، ومثل هذا لا يجوز بحال لمن فقه عن الله ورسوله.

إن مجال السياسة الشرعية رحب، وفيه تتفاوت الأنظار، ما بين مضيّق وموسّع، وبخاصة أن تقدير المصالح والمفاسد وراء الشيء الواحد يختلف الناس فيه اختلافاً شاسعاً.

وينبغي أن نقدم دائماً حسن الظن، ولا نتبع ظنون السوء، فإنها لا تغني من الحق شيئاً.

ويشتد الخطر حينما يجتمع اتباع الظن، واتباع الهوى، كالذي ذم الله به المشركين في قوله: (إِن يَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَإِنَّ الظَّنَّ لَا يُغْنِي مِنَ الْحَقِّ شَيْئاً) (النجم: 28)، (وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنِ اتَّبَعَ هَوَاهُ بِغَيْرِ هُدًى مِّنَ اللَّهِ) (القصص: 50).

من أجل ذلك حذر الله الرسل –مع ما لهم من مقام عنده– من اتباع الأهواء، فقال تعالى لداود: (يَا دَاوُودُ إِنَّا جَعَلْنَاكَ خَلِيفَةً فِي الْأَرْضِ فَاحْكُم بَيْنَ النَّاسِ بِالْحَقِّ وَلَا تَتَّبِعِ الْهَوَى فَيُضِلَّكَ عَن سَبِيلِ اللَّهِ) (ص: 26).

وقال لخاتم رسله محمد صلى الله عليه وسلم في القرآن المكي: (ثُمَّ جَعَلْنَاكَ عَلَى شَرِيعَةٍ مِّنَ الْأَمْرِ فَاتَّبِعْهَا وَلَا تَتَّبِعْ أَهْوَاء الَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ) (الجاثية: 18).

وفي القرآن المدني: (وَأَنِ احْكُم بَيْنَهُم بِمَا أَنزَلَ اللّهُ وَلاَ تَتَّبِعْ أَهْوَاءهُمْ وَاحْذَرْهُمْ أَن يَفْتِنُوكَ عَن بَعْضِ مَا أَنزَلَ اللّهُ إِلَيْكَ) (المائدة: 49).

إن الإخلاص لله يجمّع ويوحّد، أما اتباع الهوى فيفرّق ويمزّق، لأن الحق واحد، والأهواء بعدد رؤوس الناس.

وإن أكثر ما فرق الأمة الإسلامية إلى فرق وطوائف شتى في القديم والحديث هو اتباع هوى النفس أو أهواء الغير، ولهذا أطلق "أهل السُّنة" على الفرق التي حادت عن "الصراط المستقيم" هذا العنوان المعبر: "أهل الأهواء"، فكثيراً ما كان الخلاف غير جذري، أو غير حقيقي، ولكن الذي ضـخَّمه وخلّده هو الهوى، نسأل الله السلامة.


الرئيسية

مرئيات

العدد

ملفات خاصة

مدونة