شبهات حول الاقتصاد الإسلامي (3)

لا فرق بين التمويل بالمرابحة في البنوك الإسلامية والتمويل بالقرض في البنوك التقليدية

د. أشرف دوابه

14 يوليو 2025

2198

من الشبهات التي تثار حول الاقتصاد والتمويل الإسلامي أنه لا فرق بين التمويل بالمرابحة في البنوك الإسلامية والتمويل بالقرض في البنوك التقليدية.

وهذه الشبهة قديمة حديثة، فهي نفس الشبهة التي أثارها المشركون حينما قالوا: (إِنَّمَا الْبَيْعُ مِثْلُ الرِّبَا) (البقرة: 275)، وجاء الرد القرآني: (وَأَحَلَّ اللّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبَا) (البقرة: 275).

والمرابحة للآمر بالشراء التي تجريها البنوك الإسلامية بضوابطها الشرعية، هي من خلالها يشتري البنك سلعة معينة بناء على طلب عميله، وبعد أن يتملكها البنك يبيعها لعميله آجلاً بعقد المرابحة، فيستلم العميل السلعة حالاً ويسدد ثمنها آجلاً، ويتمثل هذا الثمن في تكلفة السلعة وربحها، ولا بد أن يكون كل منهما معلوماً للعميل المشتري، حيث إن المرابحة بيع أمانة لا بد فيه من الإفصاح عن تكلفة أو رأسمال السلعة ومن ثم ربحها.

ويلجأ البنك لبيع المرابحة نتيجة لتعامله في أنواع متعددة من السلع بناء على طلب عملائه، وهو لا يحتفظ بتلك السلع في مخازنه تجنباً لأخطار كساد بعضها، فضلاً عن القيود القانونية التي تضعها العديد من البنوك المركزية على البنوك فيما يتعلق بالتملك والاتجار في السلع.

النقود بطبيعتها لا تُنتج منافع ذاتية بحيث يتولد عنها قيمة مضافة.. بعكس ما عليه الحال في السلع

أما البنك التقليدي، فهو يعطي العميل قرضاً بزيادة من نفس جنسه وهي الفائدة الربوية؛ لذا فالزيادة في القرض زيادة فعلية بدون عوض، والزيادة في بيع المرابحة لا يمكن التسليم بها، فالبيع معاوضة بين شيئين يتم فيها دفع عوض أو ثمن وأخذ معوض أو مثمن، حيث يختلف العينان، فالزيادة هنا غير معتبرة ولا يمكن القول بها بين العوضين لاختلافهما، بينما العوض في الربا من نفس الجنس، مع زيادة في الدين لا يقابلها شيء لأجل التأخير في الأجل، فلا معاوضة حقيقية فيها ولا مقابل لها، فهي ظلم وباطل.

بيع السلع وبيع النقود

إنه لا يمكن من المنظور الاقتصادي تماثل بيع السلع ببيع النقود، فشتان ما بين الأمرين، حيث إن بيع السلع يعني الحركة الطبيعية للسلع لأداء دورها والانتفاع بها وما ينتج عن ذلك من قيمة مضافة نتيجة الإنتاج والتداول بصورة تجبر تكلفة الأجل وتحقق مصلحة الطرفين، فضلاً عن ظهور التنافس بين المنتجين الذي يظهر أثره الإيجابي في التنافس في خفض السعر ورفع الجودة؛ وهو ما يعود بالنفع على المستهلك، إضافة إلى فتح آفاق جديدة للإنتاج والتوزيع؛ ما يزيد من فرص العمل ويعالج البطالة، وينعكس أثره إيجاباً على الاقتصاد ككل.

أما النقود، فإن كان الأصل في طبيعتها أنها سلعة، ولكن لا يصح أن تكون في وظيفتها سلعة، فهي في حقيقتها وسيط للتبادل ومقياس للقيم؛ لذا فإن الاتجار فيها ببيع المائة بمائة وعشرة مثلاً -وهو ربا- يخرجها عن وظيفتها، فهذه الزيادة من نفس الجنس بلا مقابل ولا عوض لها، وهو ما يؤدي على مستوى الاقتصاد الكلي إلى خلق مزيد من الكتلة النقدية دون مقابل سلعي أو خدمي؛ ما يغذي التضخم ويحول بين العملة واستقرارها النسبي، حيث تصبح العملة كالمقياس الذي ليس له قياس محدد؛ ما يفسد حياة الناس بالغلاء والضيق والعنت.

وقد فطن إلى ذلك ابن القيم بقوله: «الأثمان لا تقصد لأعيانها، بل يقصد التوصل بها إلى السلع، فإذا صارت في أنفسها سلعاً تقصد لأعيانها فسد أمر الناس».

إن النقود بطبيعتها لا تنتج منافع ذاتية بحيث يتولد عنها قيمة مضافة، بعكس ما عليه الحال في السلع، وتتطلب الوظيفة الأساسية للنقود من كونها مقياساً للقيم ووسيطاً للتبادل استقراراً لقيمتها، فإذا تحولت إلى سلعة يُتاجر فيها -لا بها- كما هي عليه الحال في الربا الموجود في عالم التمويل التقليدي اليوم، والقائم على المتاجرة في النقود من خلال منح القروض بفائدة خرجت عن وظيفتها وأفسدت على الناس حياتهم.

النقود عقيمة

ولما كانت النقود في حد ذاتها عقيمة لا تلد، ومن ثم فإن أي زيادة يحصل عليها المقرض عن مقدار القرض لمجرد انتقال النقود من شخص لآخر، هي زيادة ربوية لا مبرر لها، وتهدر المبادلة المتكافئة أو العادلة حتى وفقاً لرؤية أرسطو، كما كان ابن عباس رضي الله عنهم يقول: «الدراهم والدنانير خواتم الله في الأرض، لا تؤكل ولا تشرب، حيث قصدت بها قضيت حاجتك».

أي زيادة يحصل عليها المُقرض عن مقدار القرض لمجرد انتقال النقود من شخص لآخر زيادة ربوية لا مبرر لها

كما وصف الإمام الغزالي طبيعة ووظيفة النقود وصفاً دقيقاً بقوله: «من نعم الله تعالى خلق الدراهم والدنانير، وبهما قوام الدنيا، وهما حجران لا منفعة في أعيانهما، ولكن يضطر الخلق إليهما، من حيث إن كل إنسان محتاج إلى أعيان كثيرة في مطعمه وملبسه وسائر حاجاته، وقد يعجز عما يحتاج إليه، ويملك ما يستغنى عنه.. والنقد كالمرآة لا لون لها وتحكي كل لون، فهو لا غرض فيه، وهو وسيلة إلى كل غرض، كما أنه كالحرف لا معنى له في نفسه وتظهر به المعاني في غيره.

وكل من عامل معاملة الربا على الدراهم والدنانير فقد كفر النعمة وظلم؛ لأنهما خُلقا لغيرهما لا لنفسهما، إذ لا غرض في عينهما؛ فإذا اتجر في عينهما فقد اتخذهما مقصوداً على خلاف وضع الحكمة؛ إذ طلب النقد لغير ما وضع له ظلم».

كما أنه من ناحية التأخير في سداد الأقساط أو جدولة الدين، لا يجوز للبنك الإسلامي فرض غرامات تأخير باعتبار ذلك ربا، بينما البنك التقليدي يفعل ذلك حتى يصل بالقرض إلى ربا الأضعاف المضاعفة؛ (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تَأْكُلُواْ الرِّبَا أَضْعَافاً مُّضَاعَفَةً وَاتَّقُواْ اللّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ) (آل عمران: 130).

وقد يرى البعض أن البنك الإسلامي في تطبيقه للمرابحة للآمر بالشراء يوكل العميل بالشراء والاستلام للسلعة، ويفرض عليه غرامات تأخير عند التأخر في السداد تنفق في سبيل الخيرات، ومن ثم لا فرق بينه وبين القرض الربوي، وهذا إذا حدث من بعض البنوك الإسلامية فهو ربا، ولا تختلف حينئذ في هذا السلوك عن البنوك التقليدية، فالبنك الإسلامي لا بد أن يتملك السلعة ويتحمل أخطارها قبل بيعها لنهي النبي صلى الله عليه وسلم عن ربح ما لم يضمن.

كما أن فرض غرامات تأخير والتصدق بها هو كمن طهر النجاسة بالبول، وهذا الرأي -وإن أخذت به المعايير الشرعية- فهو رأي مرجوح ومخالف للمشهور من مذهب الإمام مالك، كما أنه مخالف لما عليه جمهور الفقهاء، وينافي المقاصد الشرعية ولا ينبغي الأخذ به وتحويله إلا أصل متبع، وفتح من خلاله باباً من أبواب الربا، والعيب هنا ليس في منهج الإسلام فهو معصوم، بل العيب كل العيب في سلوك البنك وتصرفه، فعليه وزر مخالفته، ولا يمكن بأي حال محاكمة منهج الإسلام الاقتصادي بسوء سلك بعض أبنائه.

الرابط المختصر :

تابعنا

الرئيسية

مرئيات

العدد

ملفات خاصة

مدونة