شعراء من الظلال: حين يتحدث الأدب الملايوي باسم الأمة

السيد سالم

03 نوفمبر 2025

205

عبر رمال الزمن المتحركة، وبين أخاديد جزر النخيل والخيزران، انبثق أدب الملايو كسجل خالد، وديوان شاهد لحضارة امتدت جذورها في عمق التاريخ. فمن نقوش "كيداتانغان باهانغ" الحجرية التي سطرتها يد القرن السابع، إلى ملاحم "سِجارة ملايو" التي نسجت خيوط الملك والمجد، وحملت في طياتها روح شعب وثقافة أجيال، وآمال أمة. لم تكن تلك النصوص مجرد سرد حكايات عابرة، أو عرض لأحداث غابرة، بل كانت بصمات وجود، ولمسات خلود؛ تخطت الحدود، حُفرت على جدار الزمن، معلنة عبقرية المكان والإنسان.

ظلال على سواحل الأرخبيل:

وفي هذه الزوايا البعيدة من الخريطة الأدبية، صدحت أصوات همسًا، ولمعت شمسا، ضاع عطرها، وفاح أريجها بين الغابات الاستوائية وسواحل الأرخبيل، حاملةً عبق الانتماء ووهج الهوية. إنهم شعراء الملايو؛ أولئك الذين اختاروا الظل؛ ليس هروبًا من الأضواء؛ بل لأن الأضواء كثيرًا ما تعمى عن رؤية الجمال الهادىء. يبدعون بأقلامٍ من تواضع، ويُحيلون الكلمة إلى صلاةٍ للوطن، والقصيد إلى مرآةٍ للروح، والدواوين إلى استغاثات لأوجاع الأمة.

لقد ظهرت علامات الولادة الأولى لهذا الأدب في سفن التجار؛ التي شقت طريقها تمخر عباب البحور، وتبحر في مياه المحيطات، تقطع المسافات، وتطوي المساحات محملة بالعطور والبخور، ممتلئة بالتاريخ والثقافات، لتستقبل شواطئ أرخبيلات الملايو أجمل ما فيها، وأعظم ما بها؛ إنه الإسلام. الذي مثَّل لهم نسيما جديدا، وفتحا مبينا، فتحولت من ناقلة للحروف والبضائع إلى حاملة للرسالة والبدائع. فأورقت قصائد الصوفية كزهور اللوتس في ردهات المعابد القديمة، وتناسخ التراث من "حكاية حامزة" إلى "قصة النبي محمد" – صلى الله عليه وسلم-، ليرسم إطارا جديداً للمسار الأدبي، ومدارا فريدا للوجدان الجمعي في هذه البلاد وبين هؤلاء العباد.

الأدب الملايوي مرآة الوجدان الإسلامي:

وبهذا بدأت هذه الرحلة الطويلة تغير ملامح الأرض هناك؛ فمن الوثنية إلى العبودية، ومن ملاحم الهندوسية إلى مراثي الملوك والسلاطين، فلقد شكلت نسيجاً أدبياً خريدا، ومنحنى فنيا فريداً لا ينفصل عن نبض الأمة. فكل حرف كتب كان صدى لواقعة، وكل معنى كان تعبيرا عن فاجعة، وكل قصة سردت كانت مرآة عاكسة لتحولات الأمة المصيرية.

لقد كان الأدب الملايوي - منذ بدايات القرن العشرين- مرآة الوجدان الجمعي للأمة في ماليزيا وإندونيسيا وبروناي وسنغافورة خاصة، وصدى لقضايا الأمة عامة. فمنذ أن دوّت أصوات الشعراء هناك بلحن الحرية، أدرك الملايويون أن الكلمة ليست زخرفا للقول، بل جذوة للوعي، وعنوانا للهوية، ومرفأ للحرية، وجسرا للكرامة.

مؤكدين بذلك أن الشعر ليس ترفًا لغويًا، بل مسؤولية روحية تتجاوز حدود الذات إلى همّ الأمة.

الأدب الملايوي ومفهوم الأمة:

تقول الباحثة نور عزيزة عبد الله في دراستها (الأدب الملايوي ومفهوم الأمة): "الشاعر الملايوي هو ضمير جماعي يتكلم بلسان الأمة، ويعيد عبر القصيدة بناء وعيها التاريخي والروحي".

إنّ هذه الثلة من الشعراء المغمورين الذين ظلّوا خارج دوائر التكريم، وبعيدا عن أضواء الجوائز، هم أكثر من عبّروا عن أوجاع الأمة وهمومها. فهم لا يكتبون حبًّا في شهرة، ولا طمعا في سلطة، ولا سعيا لجاه، ولا بحثا عن حياة؛ بل لأن في داخلهم جرحًا يتكلّم، ووجعا يتألم.

وهكذا تحولت القصائد الملايوية إلى وثيقة وجدانية للأمة، وشهادة إثبات جراح، ودليل توثيق لآلام الأمة وآمالها؛ تجلي الواقع، وتظهر عوار ما في المواقع، تمزج بين البسمة والدمعة، بين الأعراض والأمراض، بين الأنين والحنين. فهي ليست مجرّد قوالب تحوي شعرا، بل شهادة على معاناة الأمة وحنينها إلى جذور المجد والتمكين، وقلاع العز المتين.

فالشعر في الثقافة الملايوية ليس زخرفا ثقافيا، أو ترفا أدبيا؛ بل منبرا للوعي الوطني، يستلهم قدسيته من صدقه، وفنائه في الدفاع عن الأمة، وفائه للأرض والعِرض.

وفي زمنٍ تُطمس فيه الهويات تحت عجلات العولمة والانسلاخ والتماهي، يبقى الأدب الملايوي حارسًا لذاكرة الأمة، منافحا عنها، ومكافحا من أجلها– كما قال الشاعر محمد حاجي صالح بأن: "الأمة التي تنسى لغتها، تنسى ملامحها".

ومن هنا نجد إصرارا عجيبا من الشعراء الملايويين على الكتابة بلغتهم الأم أو بالعربية الفصحى رغم امتلاكهم أدوات الحداثة والإنجليزية؛ لأنهم يوقنون بأن اللغة ليست وسيلة تعبير فحسب، بل درعا للمقاومة. ورمزا للكرامة

وربما لهذا السبب ظلّ كثيرٌ منهم في الظلال؛ يكتبون عن القرى لا عن المدن، عن الوجع لا عن الرفاهية، عن الجماعة لا عن الذات. لكن في تلك الظلال تسكن المصداقية التي فقدها الشعر في مواطن الضوء ومواضع النور. وكما يقول الناقد الإندونيسي أحمد إبراهيم ألفين: "في الظل وحده يبقى الشعر وفيًا لجوهره؛ لأن الضوء يغريه بالتزيين أكثر مما يهمّه بالصدق".

الأدب الملايوي حارس أمين:

إنّ الأدب الملايوي، الممتدّ من حكماء الحكايات (Hikayat) إلى رموز الحداثة الشعرية، ما زال يغرف من نبع الأرض والروح، حاملاً رسالته الخالدة: أن يكون صوتًا للأمة وذاكرةً للإنسان ووشمًا للهوية في وجه النسيان. فالشاعر الملايوي لا يكتب لينجو، بل لتسمو قيم الأمة، وتعلو رايتها خفاقة براقة؛ ولتبقي أمته حيّة في الوجود.

وحين نطَّلع على إنتاج هؤلاء الشعراء الذين يكتبون في الظلال، ندرك أن الأمم لا تُقاس بما يُقال في المنابر؛ أو ما يُسكب من المحابر، أو ما يُنقل في المخابر؛ بل بما يمس القلب، ويأسر النفس، ويؤثِّر في الروح، ويثبِّت الركائز، ويرسِّخ الدعائم، ويعيد للأمة نورها في ظل هذه العتمة، ويبقيها على قيد الحياة لا في حياة القيد!

إن الحركة الأدبية في أرخبيل الملايو بما تقدمه من إبداع أدبي، متمثلا في قصائد شعرية منظومة بحروف سواء أكانت جاوية أو عربية صوت نابض يرافق خفقات قلوب المسلمين في جنوب شرق آسيا خاصة وبلاد المسلمين عامة؛ يشعر بهم، ويشعر معهم؛ كالحارس الأمين على هويتهم وقضاياهم.

تطور الشعر الملايوي المعبر عن الأمة:

ولقد انتقلت القصيدة الملايوية عبر مراحل فكرية متنوعة وتطورات تاريخية يمكن إجمالها في الآتي:

·       من الصوفية إلى الصحوة: رحلة القصيدة مع الأمة:

بعد دخول الإسلام إلى أرض الملايو، تحولت القصيدة من حكايات الأساطير والملاحم إلى نشيد التوحيد الإلهي. فهذا الشاعر حامد فنصوري قد رفع صوته بشعر صوفي عميق، ولم يكن إلا انتهاج روحي طويل نحو التسامي.

ثم جاء الأديب الراجا علي حاج، ليجعل من القصيدة منبرا لتعليم الأمة وإصلاحها. ففي "غوريندام دودوك بوسات" وضع أسسا ومعايير؛ منها: أن السلطان عدله سبب قوة الدولة، وأن صلاح القلب سبب نجاة الإنسان، وأن طلب العلم فريضة. فجاء شعره في ثوب نصائح غالية يحيي بها ضمير أمة كاملة.

·       من الانكفاء على الذات والاكتفاء بها إلى هموم وقضايا عامة

فمع انبثاق فجر القرن العشرين، وحملات الغزو الفكري، وتحديات العولمة، تحمَّل البيت الشعري الملايوي أمانة جديدة. فلم يعد الهم فرديا صوفيا فحسب، بل أصبح جماعيا يبعث القلق، ويثير الحمية على مصير المسلمين في كل مكان.

وها هو الشاعر الماليزي الكبير محمد حاجي صالح، يطلق صرخته في وجه زمن تتآكل فيه هوية المسلم. ففي قصيدته "ساجاك سيراغا سيجارا" (قصيدة رحلة الأديب)، يسأل بأسىً:

"إلى أين أمضي؟
فقد ضاع دربي في زحام الحضارة الوافدة،
وأنا الآن أبحث عن جذوري تحت أنقاض الوقت"

إنه سؤال أمة خائفة على ذاتها من التيه والذوبان.

·       الانتقال من هموم الوطن الصغير إلى هموم الوطن الأم الكبير

فهذا الشاعر ت. أ. حسان، بعد رفضه الصمت والسكوت؛ نزع عن القصيدة ثوب المجاز والاستعارة، وخاطب قضايا الأمة بصراحة واستثارة. لقد جعل من قضية فلسطين، ومآسي المسلمين محتوى لشعره، محرضا على النصرة ومذكرا بالوحدة.

لقد كانت هموم الأمة تثقل كاهل شعراء الملايو، فجاءت قصائدهم بوصلة الضمير الجماعي. وتركزت عدساتها على:

  • فلسطين: فلم تكن قضية بعيدة، بل كانت جرحا نازفا في قلب كل شاعر. ذكروها بالاسم، بكوا على مساجدها، رثوا أطفالها ونساءها، ودعوا إلى نصرتها.
  • الهوية الإسلامية: في مواجهة طفح الثقافات الوافدة، والقنوات الفاسدة، والإملاءات الكاسدة، والضغوطات الواصدة تمسك الشعراء بدينهم ولغتهم وتاريخهم، رافضين أن يكونوا نسخا مشوهة من غيرهم؛ فرفضوا الاتباع، وأنكروا الابتداع...فكانوا – بفضل ثباتهم ووثباتهم – نسيجا وحدهم.
  •  الوحدة: أدركوا أن قوة الأمة في ترابطها، فحثوا على نبذ الفرقة والخلاف والانتماء إلى جسد واحد.
  • الظلم والاضطهاد: لم يقفوا مكتوفي الأيدي، معصوبي الأعين على مآسي المسلمين في أي مكان، بل جاهروا برفض الظلم ودعوا إلى المساواة والعدالة والحرية.

الأدب الملايوي سجل حي لنبض أمة:

حقا إن أدب الملايو -كان ومازال – الوجهة والجهة التي تجد فيه جراح الأمة مرصودة، وأوجاعها محصورة، وآلامها مذكورة دون تجاهل أو تغافل.

وختاما يمكن القول بأن شعر الملايو الإسلامي ليس تراثا مجردا في أسفار الأدب. إنه سجل حي لنبض أمة. وهو خير شاهد على أن القصيدة لم تكن نصوصا تتلى، ولا أبيات تُغنى، بل كانت دعوة وجهادا، بارودا ورصاصا، سلاحا وكفاحا. فكانت أبيات أبيِّات؛ في كل بيت من أبياتها تجد قطعة من قلب المسلم الحزين الواثق بنصر ربه، وسيبقى أبدا يردد بالأمل: "إن مع العسر يسرا".

اقرأ أيضًا

الخطاب الدعوي المعاصر في ماليزيا

الرابط المختصر :

تابعنا

الرئيسية

مرئيات

العدد

ملفات خاصة

مدونة