صلاة الاستخارة.. كيفيتها وأهميتها ومتى تحتاجها؟
حين تتزاحم أمامنا الخيارات، وتتشابك الطرق،
ويعجز العقل عن الترجيح، تشرق في الإسلام شعيرةٌ ربانية تُعيد القلب إلى موضع الطمأنينة،
وتربطه مباشرة بربّ العالمين، إنها الاستخارة، عبادة الأسرار والتسليم، ومدرسة الثقة
في تدبير الله.
مفهوم الاستخارة
الاستخارة هي أن يطلب العبد من ربه سبحانه
أن يختار له، وقيل: طلب الخير من الله تعالى فيما يقصد من الأمور.
الحث على الاستخارة
روى البخاري في صحيحه عَنْ جَابِرٍ قَالَ:
«كَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُعَلِّمُنَا الِاسْتِخَارَةَ
فِي الْأُمُورِ كُلِّهَا، كَالسُّورَةِ مِنَ الْقُرْآنِ»، وروى أحمد في مسنده عَنْ
سَعْدِ بْنِ أَبِي وَقَّاصٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:
«مِنْ سَعَادَةِ ابْنِ آدَمَ اسْتِخَارَتُهُ اللهَ، وَمِنْ سَعَادَةِ ابْنِ آدَمَ
رِضَاهُ بِمَا قَضَى اللهُ، وَمِنْ شِقْوَةِ ابْنِ آدَمَ تَرْكُهُ اسْتِخَارَةَ اللهِ،
وَمِنْ شِقْوَةِ ابْنِ آدَمَ سَخَطُهُ بِمَا قَضَى الله عَزَّ وَجَلَّ».
حكم الاستخارة
قال الحافظ العراقي: أجمع العلماء أن الاستخارة
سُنة من السنن التي دعا إليها رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولم أجد من قال بوجوب
الاستخارة، ومما يدل على عدم وجوبها الأحاديث الصحيحة الدالة على انحصار فرض الصلاة
في الخَمس(1).
لماذا شرع الإسلام الاستخارة؟
1- إحسان التوكل على الله وتفويض الأمر إليه:
ليست الاستخارة مجرّد وسيلة لاختيار بين أمرين،
بل هي تربية ربانية على التوكل الحقّ، إذ تُدرّب القلب على أن يُسلِّم قياده لله تعالى،
راضيًا بما يختاره له، مطمئنًّا إلى أن الخير كلّ الخير فيما اختاره الله، لا فيما
تميل إليه النفس أو يراه العقل القاصر.
ومن هنا كانت الاستخارة ذروةً في إحسان التوكل؛
لأنها تجمع بين الاجتهاد في الأسباب والتفويض في النتائج، فيُقدِم المسلم على الأمر
بعد أن يستشير ويستخير، ثم يُسلم قلبه للقدر برضا وطمأنينة، لا يجزع إن صرفه الله عنه،
ولا يغترّ إن قُدّر له، لأنه يعلم أن الله قد اختار له خيرًا وإن خفي عليه وجهه، فالاستخارة
بهذا المعنى تغرس في النفس مقام العبودية الكاملة؛ إذ تربي المؤمن على الثقة بالله
في كل شأن، والتسليم لقضائه في كل حال.
2- دوام اللجوء إليه سبحانه:
تُعلِّم الاستخارة العبد دوام اللجوء إلى
الله في كل شأنٍ من شؤون حياته، صغيرها وكبيرها؛ إذ ليس في حياة المؤمن أمرٌ يستغني
فيه عن مولاه، فالاستخارة ليست عبادة مؤقتة عند الحيرة، بل هي منهج حياةٍ دائم يُذكِّر
العبد بأن تدبيره ناقص، وأن رحمة الله أوسع من تصوّره، وأن القلب لا يهدأ إلا إذا كان
بين يدي من خلقه.
وهكذا يتربّى المؤمن بالاستخارة على الدوام
في الاعتماد على الله، فلا يرى لنفسه حولًا ولا قوة، بل يأنس بالقرب، ويستروح في الدعاء،
ويجد في كل استخارةٍ تجديدًا للعهد مع مولاه بأنه عبدٌ لا يملك من أمره شيئًا، وأنه
لن يفوِّض الأمر إلا لمن بيده الخير كلّه.
3- البرهان على الثقة في توفيق الله:
حين يقف العبد بين يدي ربّه في صلاة الاستخارة،
فإنه يُعلن عمليًّا أن حولَه وقوّتَه لا تغنيان شيئًا ما لم يُؤيّده الله بتوفيقه،
فالاستخارة تعلم القلب كيف يضع ثقته في الحكيم العليم الذي يحيط بكل شيء علماً.
4- تحصيل البركة باتباع السُّنة:
الاستخارة بابٌ من أبواب البركة؛ لأن فيها
امتثالاً لسُنة النبي صلى الله عليه وسلم، ومن سار على هدي السُّنة نال بركتها، فمن
أراد البركة في قراره، والسعة في رزقه، والسعادة في قلبه، فليلزم هديه وليُكرّر الدعاء
الذي علّمه خير الخلق لأصحابه، ليبقى متصلًا بمصدر النور والبركة إلى قيام الساعة.
5- تحقيق الطمأنينة النفسية:
الاستخارة تجلب الطمأنينة للقلب، لأنها تعني
تفويض الأمر إلى الله، فيكون العبد راضيًا بما قسمه الله له.
6- جلب الخير وتجنب الخيبة:
قَالَ بَعْضُ الْحُكَمَاءِ: مَنْ أُعْطِيَ
أَرْبَعًا لَمْ يُمْنَعْ أَرْبَعًا: مَنْ أُعْطِيَ الشُّكْرَ لَمْ يُمْنَعِ الْمَزِيدَ،
وَمَنْ أُعْطِيَ التَّوْبَةَ لَمْ يُمْنَعِ الْقَبُولَ، وَمَنْ أُعْطِيَ الِاسْتِخَارَةَ
لَمْ يُمْنَعِ الْخِيَرَةَ، وَمَنْ أُعْطِيَ الْمَشُورَةَ، لَمْ يُمْنَعِ الصَّوَابَ(2)،
وعن أنس بن مالك قال: «مَا خَابَ من استخار وَلَا نَدم من اسْتَشَارَ وَلَا عَال
من اقتصد»(3).
7- الإعانة على حسم التردد:
تُساعد الاستخارة في تحويل التردد إلى ثبات،
والشك إلى يقين عند مواجهة أمور غيبية النتائج، فالمسلم يحسم أمره ويقرر قراره بناء
على استخارة ربه سبحانه.
متى نحتاج إلى الاستخارة؟ ومتى لا نحتاج؟
نحتاج إلى الاستخارة في الأمور المباحة التي
لا يعلم العبد الصواب فيها فيستخير الله تعالى؛ لييسرها له، كالزواج أو السفر أو العمل
أو البيع أو الشراء أو غير ذلك من شؤون الحياة.
دعاء الاستخارة
وهي سُنة لمن أراد القدوم على أمر ذي بال، فيصلي ركعتين من غير الفريضة يقرأ فيهما بالفاتحة وما تيسر من القرآن، فإذا سلم من الصلاة دعا بهذا الدعاء: «اللهم إني أستخيرك بعلمك وأستقدرك بقدرتك، وأسألك من فضلك العظيم، فإنك تقدر ولا أقدر، وتعلم ولا أعلم وأنت علام الغيوب، اللهم إن كنت تعلم أن هذا الأمر (ويسمي حاجته) خير لي في ديني ومعاشي وعاقبة أمري، فاقدره لي ويسره لي ثم بارك لي فيه، وإن كنت تعلم أن هذا الأمر (ويسمي حاجته) شر لي في ديني ومعاشي وعاقبة أمري، فاصرفه عني واصرفني عنه واقدر لي الخير ثم رضني به» (رواه البخاري).
ولا نحتاج إلى الاستخارة في أمرين:
1- المعروف خيره، كالعبادة والأمر بالمعروف
والنهي عن المنكر.
2- المعروف شره، كالمحرمات والمكروهات.
قال ابن أبي جمرة: الاستخارة في الأمور المباحة
وفي المستحبّات إذا تعارضا في البدء بأحدهما، أمّا الواجبات وأصل المستحبّات والمحرّمات
والمكروهات كلّ ذلك لا يستخار فيه(4).
هل يكتفي المسلم بالاستخارة أم يضم إليها الاستشارة؟
على الرغم من أهمية الاستخارة، فإنها لا تُغني
عن الاستشارة، بل تُكملها، حيث أمر الله بالاستشارة في قوله تعالى: (وَشَاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ) (آل
عمران: 159)، وقوله عز وجل عن المؤمنين: (وَأَمْرُهُمْ شُورَى بَيْنَهُمْ) (الشورى: 38)،
قَالَ سيدنا عَلِيٌّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: «الِاسْتِشَارَةُ عَيْنُ الْهِدَايَةِ
وَقَدْ خَاطَرَ مَنْ اسْتَغْنَى بِرَأْيِهِ»(5)، وقال الماوردي: اعلم أن
من الحزم لكل ذي لب ألا يبرم أمراً ولا يمضي عزماً إلا بمشورة ذي الرأي الناصح،
ومطالعة ذي العقل الراجح(6).
_____________________
(1) الدين الخالص: الشيخ السبكي (5/
230).
(2) المجالسة وجواهر العلم: أبو بكر الدينوري
(2/ 413).
(3) الفردوس بمأثور الخطاب: الديلمي (4/
74).
(4) فتح الباري (11/ 188).
(5) الآداب الشرعية والمنح المرعية: ابن مفلح
(1/ 325).
(6) أدب الدنيا والدين، ص 300.