صناعة مناهج العزة

نجح عملاء الغرب من المثقفين العرب والمسلمين في التركيز على مواطن الضعف في التاريخ الإسلامي، وتقديمه باعتباره تاريخًا من الحروب والدماء والانكسارات، وقدموا للأجيال المختلفة صورة غير حقيقية للتاريخ الإسلامي، من بينها تحويل خلفاء أثروا الحضارة الإنسانية إلى مجرد رجال يبحثون عن النساء، ويتصارعون على الحكم، وينشغلون بالخلاف على أبسط مظاهر الدين دون جوهره، حتى اعتقد كثير من شباب اليوم أن تاريخنا الإسلامي ليس فيه ما يدعو للعزة والكرامة والشموخ.

وكان هذا عملا مقصودا لضرب العزة في نفوس الأمة كي لا تقوى ولا تتسلح بالأمل في أن تنهض وتقاوم وتصنع لوحة حضارية جديدة تضاف إلى لوحاتها التي شرفت الكون.

 يجب أن ينتبه علماء المسلمين إلى كيفية إزاحة هذه الأمراض التي صنعتها حفنة من أبناء الأمة كانوا جنودًا للاستعمار الثقافي، وللأسف ما زالوا يعملون حتى اليوم للتدمير النفسي والاجتماعي لهذه الأمة، وهو ما جعل قرابة 2 مليار مسلم تائهين بين حقيقة عزة يشار إليها من بعيد، وضلال عظيم تركز عليه أقلام وأفلام ووثائق تغطي كل العقل العربي والإسلامي.

مناهج التعليم

تتضمن مناهج العزة مكونات رئيسية ترتكز على تعريف الأفراد بهويتهم الثقافية والدينية والوطنية؛ إذ يُعمِّق هذا الجانب الفهم بتاريخهم وتراثهم الحضاري، مما يعزز شعورهم بالانتماء للمجتمع والأمة، ويجب أن تركز المناهج على تعزيز الثقة بالنفس، وإعداد برامج لتدريب الأفراد على كيفية بناء ثقتهم بأنفسهم وتطوير مهارات التواصل الفعال واتخاذ القرارات الحكيمة، مما يمكنهم من التعبير عن آرائهم بثقة واحترام.

ويجب أن تحظى القيم الأخلاقية بمكانة رفيعة ضمن هذه المناهج، إذ تغرس قيم الصدق والعدل والاحترام والتسامح، مع التأكيد على أهمية المسؤولية الفردية والاجتماعية، وتعزيز مفهوم الكرامة الإنسانية وحقوق الإنسان.


اقرأ أيضاً: إعادة بناء مناهج التعليم بعيون إسلامية


ويعد تدريس التاريخ العربي والإسلامي محورًا أساسيا في مناهج العزة مع ضرورة التسلح بالوعي لتنقية تاريخنا الإسلامي من كافة الشوائب التي ألصقت به عمدًا، ويجب ألا نتوقف عند تاريخنا الإسلامي في مراحله الأولى، بل يجب تدريس الشباب تاريخنا المعاصر، وخاصة الصراع العربي الإسرائيلي حول فلسطين والقدس، باعتباره قضية العرب والمسلمين المركزية التي يجب أن تتضمنها جميع مراحل التعليم من الروضة حتى مرحلة التخرج من الجامعات.

وكل هذا لا يتعارض مع تدريس التاريخ الوطني والعالمي لفهم السياقات التي شكّلت الحاضر، وتعزيز الثقافة المحلية والعالمية لرفع مستوى التفاهم والتسامح بين الشعوب.

إدارة الصراعات

ومن ضرورات مناهج العزة، التركيز على تنمية المهارات الحياتية لدى المتلقين؛ وهو ما يعني تعليم الأفراد كيفية حل المشكلات وإدارة الصراعات، وتعزيز قدرتهم على التكيف مع التغيرات ومواجهة التحديات، إلى جانب تنمية مهارات القيادة والعمل الجماعي.

وفي إطار التوعية الاجتماعية والسياسية، يتعلم المشاركون حقوقهم وواجباتهم كمواطنين، ويتعرفون على القضايا الاجتماعية والسياسية المحلية والعالمية، مما يحفزهم على المشاركة الفاعلة في بناء مجتمعهم، وذلك في إطار إعداد برامج للمحاكاة على إدارة النقاشات السياسية والقانونية، وغيرها.

ومن ضمن هذه البرامج التدريب على الصمود النفسي، بحيث يتعلم المتلقي العمل تحت الضغوط والصدمات التي تؤهله للصحة النفسية والقيادة السليمة، كما يتم تعزيز الروح الوطنية عبر تعليم أهمية حب الوطن والدفاع عنه، وتشجيع المشاركة في الأنشطة الوطنية والتطوعية، مما يرسخ مفهوم التضحية من أجل الصالح العام.

ويعد تشجيع الابتكار ورصد الجوائز للمتفوقين أحد العوامل المهمة لغرس الثقة بالنفس والشعور بالعزة، وتشجيع الجميع لسلوك هذا الطريق المفيد للشخص والمجتمع.

كما يتضمن التعليم الديني والأخلاقي نقل المبادئ الدينية التي تعزز الكرامة والعدل، مع تعليم الأخلاق الإسلامية التي تدعو إلى احترام الذات والآخرين، وتعزيز مفهوم العزة في الدين دون تكبر أو تعالٍ.

اقرأ أيضاً: مناهج التعليم العربية.. قبول الآخر أم انسحاق أمام العدوان؟!


نماذج للدراسة

يشكل قادة الأمم وعلماؤها أعمدة أساسية لبناء العزة والثقة بالنفس، خاصة إذا كانوا قد ساهموا في صناعة حضارة عظيمة وانتصارات كبيرة تمثل فخرًا للأجيال في مختلف العصور، وأمتنا العربية والإسلامية زاخرة بتلك النماذج التي يجب التركيز عليها، ومنحها فرصة واسعة في مناهج العزة والكرامة.

ومن الذين لعبوا دورًا بارزًا في التاريخ العسكري والحضاري، القائد خالد بن الوليد الذي تميز بمهارات القيادة في الحروب والغزوات الإسلامية، فانتصر في جميع معاركه دون هزيمة، مستخدمًا استراتيجيات مبتكرة حيث برزت عبقريته الفذة في معركة اليرموك التي انتصر فيها بـ 36 ألف مقاتل على جيوش الروم التي كان قوامها 240 ألف مقاتل.

أما محمد الفاتح، الذي فتح القسطنطينية في الحادية والعشرين من عمره، فقد أذهل العالم بعبقريته عندما نجح في تحريك سفنه الحربية على اليابسة عبر ألواح مطلية بزيت الزيتون، وفتح المدينة بعد حصار مدروس استغل فيه المدافع العملاقة وخططًا عبقرية، ليجعلها عاصمة للإمبراطورية العثمانية.

كذلك، نجح عمرو بن العاص في فتح مصر عبر تحالفاته الذكية واستخدامه عبقريته في هزيمة البيزنطيين، مما جعل مصر جزءًا أساسيًا من الحضارة الإسلامية. أما عقبة بن نافع، فقد أسس القيروان، وقاد الفتوحات حتى المحيط الأطلسي، ممهدًا لنشر الإسلام في شمال إفريقيا، وهو ما استكمله طارق بن زياد بفتح الأندلس.

وبالمثل، أثرى العلماء المسلمون الحضارة الإنسانية بإسهاماتهم العميقة، فكان ابن سينا رائدًا في الطب والفلسفة، وظل مؤلفه "القانون في الطب" مرجعًا أساسيًا لقرون في الجامعات الأوروبية والعالمية، بينما نقل ابن رشد الفكر اليوناني إلى العالم الإسلامي والغربي، مشددًا على العقل والمنطق.

أما الإدريسي، فقد قدم خرائط دقيقة عززت الفهم الجغرافي، إذ قام بتأليف "نزهة المشتاق في اختراق الآفاق" التي جمعت بين المعرفة الجغرافية والخرائط الدقيقة للعالم المعروف في عصره، في حين أسس ابن خلدون علم الاجتماع والتاريخ بتحليله للعصبية وصعود الحضارات وسقوطها، وخاصة في كتابه الأشهر "مقدمة ابن خلدون".

وفي التاريخ المعاصر، واصل العلماء العرب والمسلمون إسهاماتهم البارزة، حيث يعد أحمد زويل أحد أبرز العلماء العرب الحاصلين على جائزة نوبل في الكيمياء بفضل أبحاثه حول الفيمتوثانية، التي أحدثت ثورة في دراسة التفاعلات الكيميائية. أما فاروق الباز، فقد كان له دور بارز في أبحاث استكشاف الفضاء، إذ شارك في برامج وكالة "ناسا" لتحديد مواقع هبوط مركبات أبولو على سطح القمر. كما لمع العديد من العلماء المسلمين والعرب في أوروبا، في مجالات الفيزياء والهندسة والطب، مسهمين في تطور العلوم الحديثة وتعزيز مكانة المعرفة العربية والإسلامية عالميًا.


اقرأ أيضاً: "الخلافة" في المناهج التعليمية العربية


وهكذا يبدو تاريخنا الإسلامي حافلا بمواطن العزة التي ان استدعيناها تكون سلاحًا لنا ولأجيالنا لعبور عصر الجهالة والتخلف، والانطلاق منها للتربع بثقة على عرش الحداثة والنهضة؛ لأن الأجيال المهزومة في تعليمها وتراثها وتاريخها وقدواتها لا يمكنها أبدًا أن تحصل على نصيبها من التقدم والرقي والعزة.


الرئيسية

مرئيات

العدد

ملفات خاصة

مدونة