صوت الكتائب.. «الملثم» رمز المقاومة وصداها

علي إبراهيم

25 سبتمبر 2025

56

أدندن منذ أيامٍ الأبيات الأثيرة للشاعر الراحل إبراهيم طوقان، وأقف مليًا عند مطلع قصيدته «لا تسل عن سلامته»:

لا تسل عن سلامته   روحه فوق راحتِهْ

بدَّلَتْهُ همومُهُ         كفناً من وسادِتهْ

ومع كل بيتٍ منها، يحضر في خيالي صورُ من فقدنا في أتون هذه الحرب، ثلةٌ مباركة من كبار القادة والأبطال، صدقوا ما عاهدوا الله عليه، فمن قضى نحبه كان على طريقٍ اختاره وعلمه، ومن ينتظر منهم يُكمل هذا المسار العظيم من التضحيات الجليلة، وما زال صوت عبدالعزيز الرنتيسي يجلجل في مسمعي، وهو ممسكٌ بندقيته، ليقولها واضحة تخترق حجب السنين والأيام، بأنها هي الطريق لا غير.

أستكمل قراءة القصيدة، وأقف مليًا عند هذا الشطر: «لفظ النار والدما»، كأن طوقان يقصد من أود الحديث عنه في هذا المقال، عن ذلك الملثم الذي يُرعب صوته العدو الصهيوني، ويبث فينا الرسائل المتتالية، يحاول فيها إحياء ذلك الموات، واستنهاض ما بقي من طاقات، ولا أكتب هنا نعيًا له، فما لم تُعلن «القسام» استشهاده سيظلّ صوته نابضًا في قلب حرّ، يلفظ النيران على عدوٍ قميء، والدم من خذلانٍ أكبر من الخيال، ولكنها مشاهدات ورؤى، عن شخصية كثفت الرمزيات بلثامها، وتحولت إلى صوت الكتائب الهادر، وصورتها الأثيرة، وإعلامها الاستثنائي، الذي يلا يُشبه إلا هذا الشعب بإبائه وأنفته وجهاده وتضحياته.

أبو عبيدة.. ميلاد الناطق المقاوم

بدأت مسيرة أبي عبيدة منذ عام 2004م عندما ألقى أول بيانٍ لـ«القسام» في مسجد النور شمال قطاع غزة، لتكون انطلاقة أبرز ناطقٍ إعلامي لحركة مجاهدة في العصر الحديث، وعقب انسحاب جيش العدو الصهيوني من قطاع غزة عام 2005م، حمل أبو عبيدة رسميًا صفة «الناطق الإعلامي باسم كتائب القسام»، وظهر حينها في برنامج «في ضيافة البندقية» الذي عرضته قناة «الجزيرة»، وتزامنًا مع معركة «الفرقان» في نهاية عام 2008 وبداية عام 2009م، شكلت إطلالات أبي عبيدة منصة للبيانات الرسمية للمقاومة، والكشف عن خسائر العدو.

وفي الحروب التالية، ترسّخ حضور أبي عبيدة كعلامة فارقة في المشهد الإعلامي والعسكري لـ«كتائب القسام» خاصة، وللمقاومة بشكلٍ عام، فقد تطورت إطلالاته من استعراض التطورات، وخسائر العدو، إلى رسائل مكثفة تحمل المنجزات الميدانية ورسائل المقاومة إلى شعبها والمحيط.

من «العصف المأكول» إلى «الطوفان»

في حرب «العصف المأكول»، في عام 2014م، كان الخطاب الأبرز لأبي عبيدة مع إعلانه أسر أحد جنود العدو، وبدأ حضوره ورمزيته تتصاعد فلسطينيًا وعربيًا، وقد واكب أبو عبيدة المنصات الرقمية، وكانت تهديداته عبر منصفة «تليغرام» الشرارة التي أطلقت معركة «سيف القدس»، التي أجبرت الاحتلال على التراجع، في ظل الهجمة الصهيونية التي كان المسجد الأقصى يتعرض لها.

وأخيرًا في ظلال «طوفان الأقصى»، لا يزال صوت أبي عبيدة نابضًا بالأمل، على الرغم من الجراح المتتالية، وصولًا إلى رسالته الأخيرة، التي كانت مملوءة بمشاعر المجاهد المخذول، ورسائل أخيرة تحاول استنهاض أمة مترامية الأطراف تركت غزة وشعبها ومقاومتها وحيدة في مواجهة عدو بغيضٍ قاتل، ولكنها ما زالت تستطيع مواجهة العدو، أما قال للاحتلال: «إذا قررتم مواصلة الحرب، فاستعدوا لمزيد من الخسائر في الأرواح والأسرى»؟!

الملثم.. صورة الأمة

لقد تحوّل أبو عبيدة إلى أيقونة للمقاومة و«القسام»، كان صوته وذلك الالتماع في عينيه جزءًا من الهوية التي أصبحت عَلَمًا على هذه الجماعة المؤمنة المجاهدة، إطلالاته محطات ينتظرها الأحرار بكل فخر، عن صورة ذلك العجوز في الحجاز، الذي لا يستمع إلى خطابات الملثم إلا وهو واقف، احترامًا لهذا الرجل وكلماته، وعن الأطفال الذين تفتحت أعينهم على صورة الملثم، عن ذلك الفتى الذي وضع نصب عينيه أن يصبح كأبي عبيدة في يومٍ من الأيام، عن البطل الحقيقي، غير الخارق بمعايير هوليوود، ولكنه من نسيج هذه الأرض، نبت في غزة، وسُقي بالعزة كابرًا عن كابر، فكان بصوته ومخارج حروفه صوتًا معبرًا عن الأمة كلها، في قسماته تجد كل فلسطيني من البحر إلى البحر، فهو «الناطق باسم الأمة»، و«الملثم».

ترسخت مكانة أبي عبيدة كواجهة إعلامية بارزة لهذه الحرب، خاصة بعد ارتقاء نظيره في «سرايا القدس»، أبي حمزة، تقبله الله، لقد غدا صوت الملثم كالرصاص الهادر، يحمل رسالة المقاومة وصمودها، ولم يعد حضوره محصورًا في بيئة بعينها؛ ألم ترَ ذلك الطالب الأمريكي الذي ارتدى كوفية حمراء، معلنًا أنه فعل ذلك اقتداءً بالملثم؟ لقد بلغ صدى رسائله العالم أجمع، وسيظل يتردد ما دامت هذه الأمة تبحث عن صوتها وكرامتها.

الكوفية الحمراء وإرث المقاومة

قلّما عرف التاريخ أمةً أفاضت عطاءً، وتزخر بالرموز والقادة الأفذاذ، كهذه الأمة، فما تكاد الأعوام تمرّ إلا وقدّمت من خيرة أبنائها في سبيل التحرر من نير الذلّ والاحتلال والتبعيّة، يُقدّم هؤلاء الشهداء دماءهم في سبيل الله تعالى، يقارعون أقوى جيوش العالم، وأكثرهم وحشيةّ وصلفًا وقذارة، وترى هذه الثلة المباركة وهي ثابتة، متمسكة بخياراتها، رجالٌ نُقشت أسماؤهم بمداد العزّة، وحُفِرت مواقفهم في الصفحات الذهبية من سجل التاريخ، إنهم لعمري أساطير لا تُنسى.

ومن هذه الشجرة المباركة «الشهيد الحي» الملثم، فمن يمضي في هذا الطريق يعرف حقيقة المعرفة أن الشهادة نصف الطريق، والنصر نصفه الآخر، وتجدهم يتسابقون نحو المنون، وكأن تلك الكوفية الحمراء، التي انتقلت من عماد عقل إلى أبي عبيدة، ستُكمل طريقها، حتى الصلاة في المسجد الأقصى المبارك، إرثٌ عظيم تمتزج فيه الكلمات بالمواقف، والبطولات بالدماء، وكأن لسان حال رموز المقاومة، نحيا مع أبناء هذا الشعب، ونمضي شهداء معهم.

«صاحب النقب».. يتجدد

منذ رأت عيناي أبا عبيدة، وأتخيله كـ«صحاب النقب» في القصة المشهورة من التاريخ الإسلامي، عن ذلك الرجل الذي لا نعرفه حتى اليوم، وجعل مسلمة بن عبدالملك يدعو له في كل صلاة: «اللهم اجعلني مع صاحب النقِّب»، وها هي أمامنا سطورٌ من ملثمٍ آخر، لم يعش في زمن الإسلام الأول، وعلى نهجهم مضى، أبلى عظيم البلاء، وقدّم أعظم التضحيات، وكان صوت تلك الثلة المباركة لنحو 21 عامًا، وكما كان يدعو القائد مسلمة رحمه الله: اللهم اجعلنا مع «صاحب النقب»، مع صوت أهل الله وخاصته، مع الصادح بالحقّ، والذاب عن حياض هذه الأمة، مع أبي عبيدة، وأبي إبراهيم، وأبي العبد، رضوان الله عليهم أجمعين، وحسن أولئك رفيقًا.

الرابط المختصر :

تابعنا

الرئيسية

مرئيات

العدد

ملفات خاصة

مدونة