مجاهدون ارتبطت أسماؤهم برمضان..
طلحة بن عبيد الله.. الشهيد الحي

ومن ذا يطيق أن يعلم أنه من أهل رضى الله ورسوله ثم يستطيع
السير بين الناس على الأرض؟ ومن ذا يطيق أن تتنزل فيه آية في كتاب الله تتلى إلى
يوم الدين على ألسنة المؤمنين ثم هو لا يتوقف قلبه فرحا وتيها؟ ومن ذا يطيق أن
يطمئن بأنه وفى، وأن أيامه على الدنيا لن تزيده حسنا، فقد بلغ قمة الحسن في كل
عمل، ثم يستطيع أن يعايش الناس بشكل طبيعي، من إلا هؤلاء الرجال الذين رضي الله
عنهم ورضوا عنه، ليس إلا من هو مثل طلحة بن عبيد الله، الذي تنزلت فيه تلك الآية
الكريمة في كتاب الله: (مِّنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجَالٌ
صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ ۖ فَمِنْهُم مَّن قَضَىٰ نَحْبَهُ
وَمِنْهُم مَّن يَنتَظِرُ ۖ وَمَا بَدَّلُوا تَبْدِيلًا) (الأحزاب:23). "فحين تلا الرسول صلى الله عليه وسلم
هذه الآية الكريمة، قال: "من أراد أن ينظر إلى شهيد يمشي على رجليه، فلينظر
إلى طلحة بن عبيد الله" لقد اطمأن هؤلاء الذين بشرهم الرسول إلى أنهم
سيحيون في أمان الله وثباتا على دينه، وأنهم لن يفتنوا في حياة أو ممات، وأنهم سوف
يلقونه غير مقصرين أو مدانين، فمن هؤلاء؟ وكيف كانت حياة هؤلاء الملهمين؟
نسب طلحة وقصة إسلامه
هو أبو محمد طلحة بن عبيد الله بن عثمان بن عمرو بن كعب
بن سعد بن تيم بن مرة بن كعب بن لـؤي بن غالب القرشي التيمي، يجتمع مع النبي صلى
الله عليه وسلم في مرة بن كعب، وأمه رضي الله عنها: الصعبة بنت الحضرمي امرأة من
أهل اليمن، وهي أخت العلاء بن الحضرمي، أسلمت ولها صحبة، وظفرت بشرف الهجرة، وكان
طلحة من السابقين إلى الإسلام على يد الصديق أبي بكر رضي الله عنهم جميعا مع عثمان
بن عفان وعبدالرحمن بن عوف وسعد بن أبي وقاص والزبير بن العوام، فيا لها من أسماء،
ويا لهم من رجال!
"وذكر في إسلام طلحة قولان: الأول: دعوة أبي بكر الصديق
له للإسلام" وقد اشتهر هذا بين أهل السير والمغازي؟ والثاني: لْقَاؤه براهب
في بصرى، ذكر له قرب مبعث النبي صلى الله عليه وسلم فعاد إلى مكة فسأل أبا بكر
فدله على النبي عليه الصلاة والسلام فأسلم"[1]
هجرته رضي الله عنه
تعرض طلحة بن عبيد الله كمعظم الصحابة لأذى قريش وأذى الأهل
نتيجة إسلامه واتباعه الدين الجديد ليرجع عن دينه، لكن طلحة رضي الله عنه صبر
وتحمل وتمسك بعقيدته حتى أذن لهم الله عز وجل بالهجرة إلى المدينة، وحين هاجر رسول
الله صلى الله عليه وسلم إلى المدينة لقي طلحة قادماً من الشام في عير، فكسا طلحةُ
رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبا بكر من ثياب الشام، ثم مضى طلحة إلى مكة حتى
فرغ من حاجته، ثمّ خرج بعد ذلك بآل أبي بكر، فهو الذي قدم بهم المدينة، فطلحة من
المهاجرين الأوّلين (رضي الله عنهم)، ولما قدم المدينة آخى رسول الله عليه الصلاة
والسلام بينه وبين أبي أيوب الأنصاري
إنفاق طلحة الخير في سبيل الله[2]
والمال في الإسلام خير وبركة واستخلاف من الله لصاحبه ليقوم
بحقه في عباده، وقد كان طلحة ذا مال كثير يجود به في موضعه، فعن قبيصة بن جابر
قال: "صحبت طلحة، فما رأيت أعطى لجزيل مالٍ من غير مسألة منه"[3]،
وعن موسى عن أبيه طلحة: "أنه أتاه مال من حضرموت سبعمائة ألف، فبات ليلته
يتململ، فقال: ما ظنّ رجل بربه يبيت، وهذا المال في بيته؟ قالت: فأين أنت عن بعض
أخلائك، فإذا أصبحت، فادع بجفان وقصاع فقسمه، فقال لها: رحمك الله إنك موفقة بنت
موفق، وهي أم كلثوم بنت الصديق، فلما أصبح دعا بجفان، فقسمَها بين المهاجرين
والأنصار، فبعث إلى عليّ منها بجفنة، فقالت له زوجته: أبا محمد، أما كان لنا في
هذا المال من نصيب؟ قال: فأين كنت منذ اليوم؟ فشأنك بما بقي قالت: فكانت صرة فيها
نحو ألف درهم. وعن سُعدى بنت عوف المرية، قالت: دخلت على طلحة يوماً وهو خاثر،
فقلت: مالك؟ لعل رابك من أهلك شيء؟ قال: لا والله، نعم خليلة المسلم أنتِ، ولكن
مالٌ عندي قد غمَّني، فقلت: ما يغُمُّك؟ عليك بقومك، قال: يا غلام ادع لي قومي،
فقسّمه فيهم، فسألت الخازن: كم أعطى؟ قال: أربعمائة ألف"[4]
وعن الحسن البصري: أن طلحة بن عُبيد الله باع أرضاً له بسبعمائة
ألفٍ، فبات أرقاً من مخافة ذلك المال، حتى أصبح ففرَّقه. وعن عليّ بن زيد قال: جاء
أعرابي إلى طلحة يسأله، فتقرب إليه برحم، فقال: إن هذه لرحم ما سألني بها أحد
قبلك، إن لي أرضاً قد أعطاني بها عثمان ثلاثمائة ألف فاقبضها، وإن شئت بعتها من
عثمان ودفعت إليك الثمن، فقال: الثمن، فأعطاه. "وكان، رضي الله عنه، لا يدع
أحداً من بني تيم عائلاً إلا كفاه وقضى دينه، وكان يرسل لعائشة أم المؤمنين كل سنة
بعشرة آلاف، إنه طلحة الخير وطلحة الفياض وطلحة الجود، وقد سمّاه رسول الله ﷺ
بالفياض لسعـة عطائه وكثرة إنفاقـه في وجوه الخير، فقد روى أبو عبد الله الحاكم
بإسناده إلى موسى بن طلحة: أن طلحة نحر جزوراً وحفر بئراً يوم ذي قـرد، فأطعمهم
وسقاهم فقال النبي صلى الله عليه وسلم: «يا طلحـة الفياض»، فسمي طلحة الفياض"[5]
جهاد طلحة واستشهاده
كلف النبي صلى الله عليه وسلم طلحة بن عبيد الله بتحسس عير
قريش مع زيد بن سعيد رضي الله عنهما، فخرجا وبلغا الحوراء، وظلا هناك حتى مرت
العير، فعادا إلى المدينة بالأخبار في الوقت الذي تحرك النبي صلى الله عليه وسلم
إلى بدر، فأسرع الصحابيان خلف الجيش ليلحقا به، غير أن الوقت لم يسعفهما، ولم
يدركا المعركة، ولكن النبي عليه الصلاة والسلام ضرب لهما بسهمين، كأسهم المقاتلين
وأجر المقاتلين.
وفي غزوة أحد، كان لطلحة فعل الأبطال، وأبلى فيها ما لم يبله
غيره من الأخيار، فعن قيس بن حازم قال: "رأيت يد طلحة شلاء وقى بها النبي صلى
الله عليه وسلم يوم أحد" (رواه الترمذي). وجُرح في تلك الغزوة تسعاً وثلاثين،
أو خمساً وثلاثين، وشُلّت إصبعاه أي: السبابة والتي تليها. وروى أبو داود الطيالسي
عن عائشة ـ رضي الله عنها ـ قالت: "كان أبو بكر إذا ذكر يوم أحُد قال: ذلك
اليوم كله لطلحة"[6]. وعن
عائشة وأم إسحاق بنتي طلحة قالتا: جُرح أبونا يوم أُحُد أربعـاً وعشرين جراحـة،
وقع منها في رأسه شجة مربعة، وقُطع نساه، يعني العرق. وشُلَّت أصبعه، وكان سائر
الجراح في جسده، وغلبه الغَشي -الإغماء- ورسول الله ﷺ يرجع به القهقرى؛ كلما أدركه
أحد من المشركين، قاتل دونـه حتى أسنـده إلى الشعب، حتى قال عنـه ﷺ: «أوجب طلحـة
حين صنع برسول الله ما صنع»[7]
فعن سعيد بن زيد رضي الله عنه ، قال: "أشهد على التسعة
أنهم في الجنة، ولو شهدت على العاشر لم آثم. قال: قيل له: ولم ذاك؟ قال: كنت مع
النبي صلى الله عليه وسلم بحراء فاهتز فقال صلى الله عليه وسلم: اسكن حراء فإنما
عليك نبي أو صديق أو شهيد قال: وقيل: من هم؟ قال النبي صلى الله عليه وسلم: أبو
بكر، وعمر، وعثمان، وعلي، وطلحة، والزبير، وسعد، وعبد الرحمن بن عوف، قال: قيل:
فمن العاشر ؟ قال : أنا" (أخرجه أبو داود والترمذي)، وقال عنه النبي صلى الله
عليه وسلم: «من أحب أن ينظر إلى شهيد يمشي على وجه الأرض فلينظر إلى طلحة بن عبيد
الله» (رواه الترمذي).
استشهاد طلحة رضي الله عنه[8]
استشهد طلحة بن عبيد الله في موقعة الجمل، حيث أصابه سهم في
رقبته، وحين مر علي بن أبي طالب رضي الله عنه بالقتلى ورآه، جعل يقول: عزيز عليّ
أبا محمد أن أراك مُجندلاً في الأودية، ثم قال: إلى الله أشكو عُجري وبُجري، وترحم
عليه، وحزن عليه حزنا شديدا، وقال: ليتني مِتُّ قبل هذا بعشرين سنة.
[1] موقع
الاتحاد العالمي لعلماء المسلمين، للدكتور علي الصلابي.
[2] سير
أعلام النبلاء، للذهبي (1/30-32).
[3] حلية
الأولياء 1/88.
[4] سير
أعلام النبلاء ج1.
[5] د/
علي الصلابي.
[6] فتح
الباري بشرح صحيح البخاري ج7 ص418.
[7] سير
أعلام النبلاء.
[8] سير
أعلام النبلاء، للإمام الذهبي ج1 (بتصرف).