عامان على «طوفان الأقصى»‏

من كان يتصور أن معركة بين فصيل صغير في قطعة صغيرة من الأرض يقبع تحت الحصار منذ أكثر من 14 عامًا، مع العالم الغربي كله بعتاده وعدته، بصواريخه وطائراته، بجنده وكل التكنولوجيا معه، بمعلوماته ومخابراته، بأذنابه وعملائه، وبجيش المنافقين المتطوعين من العرب معهم، من كان يتصور أن معركة غير متكافئة كهذه تستمر لمدة بضعة أشهر؟!

إن أكثر المتفائلين كان يتمنى أن تصمد المقاومة أمام آلة البطش 6 أو 7 أشهر، ولم لا وهو يرى أن أمريكا وبريطانيا وألمانيا وفرنسا وإيطاليا والأذناب من خلفهم مع أهل النفاق يتجمعون على أهل غزة؟! ولكن كان يغيب عن كثيرين منهم أن الله تعالى قال في كتابه: (كَم مِّن فِئَةٍ قَلِيلَةٍ غَلَبَتْ فِئَةً كَثِيرَةً بِإِذْنِ اللَّهِ ۗ وَاللَّهُ مَعَ الصَّابِرِينَ) (البقرة: 249).

ماذا خسرت غزة من «طوفان الأقصى»؟

يرى كثير من المنافقين والمتخاذلين وأهل الضعف والخور، مع قليل من الصادقين أصحاب قياس المصالح والمفاسد، كل هؤلاء يرون أن المقاومة قد تعجلت المعركة، وأنها سبب كل ما حل بغزة من الدمار والخراب، وأنه لا إيجابية في المعركة التي أطلقتها المقاومة في 7 أكتوبر 2023م، وكان يجب على المقاومة ألا تناوش العدو وتستعديه عليها وعلى أهل غزة.

وللإنصاف نقول: نعم، لقد حدثت خسارات من المعركة لأهل غزة، وحدثت لهم آلام ولا شك في هذا، فتشريد وقتل ودمار كل هذا ليس يسيرًا ولا قليلًا حتى يغفله الناظرون، ولكن! ألم يحدث للعدو مثله مصداقًا لقول ربنا: (وَلَا تَهِنُوا فِي ابْتِغَاءِ الْقَوْمِ ۖ إِن تَكُونُوا تَأْلَمُونَ فَإِنَّهُمْ يَأْلَمُونَ كَمَا تَأْلَمُونَ ۖ وَتَرْجُونَ مِنَ اللَّهِ مَا لَا يَرْجُونَ ۗ وَكَانَ اللَّهُ عَلِيمًا حَكِيمًا) (النساء: 104)؟!

بل إن ألمهم مع قلته بالنسبة لأهل غزة، إلا أنه أشد بكثير من ألم المؤمنين المحتسبين، ثم إن شهداءنا ليسوا بخسارة وذلك لأنهم أحياء كما قال ربنا: (وَلَا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتًا ۚ بَلْ أَحْيَاءٌ عِندَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ) (آل عمران: 169)، وما دمر من بيوت ومتاع فهو من باب الأذى كما قال تعالى: (لَن يَضُرُّوكُمْ إِلَّا أَذًى) (آل عمران: 111)، إذن لو خسرنا شيئًا فقد خسروا مثله وزيادة.

مكاسب المقاومة

لقد كسبت المقاومة والأمة المؤمنة معها الخير الكثير من جراء المعركة، فكل ما أصاب العدو من مفسدة فهو نصر للمقاومة والأمة، هذا فضلًا عما عاد بالمكاسب المباشرة على المقاومة والأمة معها، ونذكر هنا طرفًا من هذا:

1- بروز القضية الفلسطينية وتصدرها المشهد العالمي، وذلك بعدما كادت أن تموت سريريًا، (لدرجة أن نحو 147 دولة بالأمم المتحدة باتوا ينادون بدولة للفلسطينيين، وإن كانوا ما زالوا يعترفون بدولة الكيان، لكنها مرحلة متقدمة منهم)، وإن كنا نحن لا نؤمن بحل الدولتين، فهي عندنا دولة واحدة وهي فلسطين، ونعلم أن اعترافهم مشبوه، ومشروط بما لا يُعقل، ويأتي في إطار خدمة المحتل، لكن هذا دليل على بروز القضية على الساحة الدولية والشعبية.

2- نسف قضية التطبيع من جذورها بعد أن باتت واقعًا مفروضًا على بلادنا طوعًا أو قسرًا، فأصبح من ينادي بها موسومًا بالخيانة والعمالة، وأضحى الحكام الذين كانوا يتسترون خلف القضية الفلسطينية مكشوفي العورة مفضوحين أمام شعوبهم، وأصبح الحكام الموالون للعدو منبوذين من شعوبهم يخشون من قيام الجماهير عليهم للتخلص منهم، خاصة أولئك الذين يشاركون بصورة مباشرة في حصار المسلمين بأرض غزة.

3- انكشاف سوءة الجيش الذي كان يروج لنفسه أنه لا يقهر، فأصبح يُرَى جنوده أسرى وهو لا يستطيع أن يخلصهم، عامان ولم يستطع تحرير أسير واحد منهم إلا باتفاق ومبادلة، وأصبح يُقتَلُ منه العشرات، ولا يقوى على مواجهة أسود الميدان، رغم أنه مدجج بكل أنواع الأسلحة المتطورة، ومعه التكنولوجيا الحديثة.

4- الهجرة المضادة وهروب كثير من سكان الكيان إلى خارج أرض فلسطين المحتلة، وبلا عودة، وأصبح جميع سكانهم يشعرون بالخوف وعدم الأمان على أنفسهم وأموالهم، وكل منهم يفكر أين سيذهب، بل إنهم الآن يخشون على وجودهم بعد أن كانوا يزعمون أنها أرض الميعاد لهم، الآن تيقنوا ألا حياة لهم بها.

5- المحكمة الجنائية تحكم على رئيس وزراء الكيان وآخرين معه بأنهم مجرمو حرب ويجب القبض عليهم، وهو حكم تاريخي لم يسبق من قبل -وإن لم يُنفذ- وهذا في حد ذاته نصر للمقاومة والعدالة وأهل فلسطين.

6- تحول جل الشعوب الغربية مع القضية الفلسطينية، وتركهم للسردية الصهيونية، ومنهم من يدافع عن القضية حتى في الدوائر السياسية، فضلًا عن المظاهرات والمسيرات الشعبية الكثيرة في الغرب نفسه، وكذا هناك من أزهقوا أرواحهم نصرة للقضية الفلسطينية، وكاد الصهاينة أن يكونوا منبوذين ممن كانوا يُسَبّحون بحمدهم من قبل، وهذه الأحداث لها ما بعدها في سير القضية الفلسطينية.

7- ظهور الوجه الأمريكي القبيح على حقيقته، وانكشاف ما كان مستورًا منه، فالقاصي والداني يعلم اليوم أن الصهاينة ذراع أمريكا في المنطقة، وأنها لا تسمح بهزيمتهم، وأنها ستقف بجوارهم في كل محفل؛ مما حول أنظار الكثيرين عن راعية الديمقراطية وحقوق الإنسان، وهذا أيضًا له ما بعده من ظهور النفاق الأمريكي لدى شعب أمريكا نفسه، وكذا تحول الثقة عند الشعوب الأخرى من ناحية الأمريكيين.

8- والأهم هو إثارة القضية لدى الشعوب العربية والإسلامية، -نعم هم لم يكونوا على قدر الحدث- لكن القضية أصبحت ظاهرة للعيان، وبدأت أجيال تتحدث عن الكرامة والحرية ورفض التبعية والهيمنة للغرب، وهذا سيؤثر إيجابًا على بلادنا ربما ليس في القريب العاجل، ولكنه لا شك سيكون له أبعاد إيجابية على الأمة.

جيل النصر المنشود

لقد بدأت الحرب وهناك جيل يشارك فيها وكان مستعدًا لها، ولكن أجيالًا أخرى طالتها حرارة ومرارة الحرب وما زالت صغيرة، هذه الأجيال هي بركان يغلي ونار تتأجج، ولا شك أن هذه الأجيال لن تنسى ما حدث لها من المآسي، لن تنسى آباءً قتلوا، وأمهات عذبن، وإخوة وأخوات اغتيلوا في وضح النهار، لن تنسى حصارًا ولا تجويعًا ولا تشريدًا، هذه الأجيال لن تنسى كل هذا، وهي مستعدة للتضحية بأرواحها نصرة لقضيتها ودينها.

وذلك الجيل سيكون النصر على يديه، كما كان النصر على يد جيل جاع في مكة، وحوصر في شِعبها، وطرد من دياره، وهاجر قسرًا، ضاع بيته وماله وولده، فكان بحق جيل النصر الذي عاد ليفتح مكة من جديد، ثم فتح الله على يديه مشارق الأرض ومغاربها، فاليوم تُرَبَّى أجيالٌ على القهر والظلم والجبروت، وحتمًا ستنتقم هذه الأجيال يومًا.

ونحن على ثقة ويقين بنصر الله تعالى لعباده المؤمنين، الذين ناصروه وجاهدوا في سبيله، قال تعالى: (أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقَاتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا وَإِنَّ اللَّهَ عَلَى نَصْرِهِمْ لَقَدِيرٌ {39} الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِن دِيَارِهِمْ بِغَيْرِ حَقٍّ إِلَّا أَن يَقُولُوا رَبُّنَا اللَّهُ وَلَوْلَا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُم بِبَعْضٍ لَّهُدِّمَتْ صَوَامِعُ وَبِيَعٌ وَصَلَوَاتٌ وَمَسَاجِدُ يُذْكَرُ فِيهَا اسْمُ اللَّهِ كَثِيراً وَلَيَنصُرَنَّ اللَّهُ مَن يَنصُرُهُ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ) (الحج).

الرابط المختصر :

تابعنا

الرئيسية

مرئيات

العدد

ملفات خاصة

مدونة