مجاهدون ارتبطت أسماؤهم برمضان..
عبد الرحمن بن عوف.. الغني الشاكر

وما زلنا في رحاب أبطال ارتبط جهادهم
بشهر رمضان المبارك وهم صائمون لله عز وجل، نقلب العين بين الأسماء الرفيعة،
فينبهر القلب ويتعجب القلب، كيف لهؤلاء العظماء قد عاشوا على الأرض يوما، وكيف
استطاعوا أن يصيروا نسخا من دين الله تمشي على الأرض، وكيف استوعبتهم الأرض من
الأساس وهم بتلك الأخلاق وذلك الفعل، حيرة تجتاحك وأنت تتخير من بينهم لتقدمه
أولا، فتجدهم جميعا يجب أن يكونوا أولا، وبما أنه لا سبيل لذلك، فقد تركنا الأمر
لله يتخير من بينهم لنقدمه للمسلمين في ذكرى جهادهم الرمضاني ليكونوا مدرسة لتتعلم
الأجيال أنه يمكن للإنسان أن يكون خليفة لله في أرضه، يمكن أن يبني حضارة متوازنة
تشبع القلب والروح وترضي العقل، يمكن أن يكون غنيا متواضعا، ويمكن أن يكون فقيرا
عزيزا، يمكن أن يرضى بقدر الله كل الرضا، وفي ذات الوقت يأبى الذل والخنوع والخضوع
والانبطاح والتنازل عن حقه، يمكن أن يكون رحيما كل الرحمة، عزيزا كل العزة، يمكن
أن يكون قويا كل القوة، ودودا كل الود، إن كل واحد منهم بحر، بل محيط من الأخلاق
الأخاذة، والعقيدة الصلبة، والدين الذي ارتضاه رب العزة لخلقه أجمعين، فإلى رحاب
أحد هؤلاء لنشبع أنفسنا خيرا، إلى رحاب أحد العشرة المبشرين بالجنة، الغني الشاكر،
عبدالرحمن بن عوف
من هو عبد الرحمن بن عوف؟[1]
هو عبد الرحمن بن عوف بن عبد عوف بن
عبد الحارث بن زهرة بن كلاب بن مرة بن كعب بن لؤي بن غالب بن فهر بن مالك بن
النضر. كان اسمه الحقيقي عبد عمرو، وقيل عبد الحارث وعبد الكعبة، فغيره النبي محمد
صلى الله عليه وسلم إلى عبد الرحمن.
أمه هي الشفاء بنت عوف بن عبد بن
الحارث بن زهرة بن كلاب بن مرة بن كعب بن لؤي بن غالب بن فهر بن مالك بن النضر،
وكان له أخ هو الأسود بن عوف. زوجاته هن: أم كلثوم بنت عتبة بن ربيعة، وأم كلثوم
بنت عقبة بن أبي معيط، وتماضر بنت الأصبغ، ومجد بنت يزيد، وأم حريث، وأم حكيم بنت
قارظ، وزينب بنت الصباح، وبادنة بنت غيلان، وسهلة بنت عاصم، وبنت أبي الخشخاش،
وغزال بنت كسرى وبحرية بنت هانئ وأسماء بنت سلامة.
كان عبدالرحمن بن عوف يصغر النبي صلى
الله عليه وسلم بعشر سنوات، هاجر الهجرتين، وكان من أهل بدر، ثم شهد المشاهد كلها
مع الحبيب محمد صلى الله عليه وسلم، وبعد موت
عمر بن الخطاب كان عبد الرحمن أحد الستة الذين كلفهم عمر بالتشاور ليختاروا من
يتولى الخلافة من بعده، رضي الله عنهم أجمعين.
إسلام عبدالرحمن بن عوف
كما قال النبي صلى الله عليه وسلم في أبي بكر رضي لله عنه: "إن
أمنَّ الناس علي في صحبته وذات يده أبو بكر" (رواه البخاري ومسلم)، فقد كان
عبدالرحمن من أوائل الذين التحقوا بركب الدعوة المباركة على يد أبي بكر الصديق
صاحب رسول الله ورفيقه، مع طلحة بن عبيد الله ، وعثمان بن عفان، وسعد بن أبي وقاص،
وذهبوا لنبي الإسلام ليعلنوا تبعيتهم للإسلام قبل الدخول لدار الأرقم بن أبي
الأرقم، وكان عبدالرحمن بن عوف معروفا بعفته رضي الله عنه، "فعندما آخى النبي
صلى الله عليه وسلم بينه وبين سعد بن الربيع عرض عليه سعد بن الربيع أن
يقاسمه ماله وزوجاته فقال له عبد الرحمن: بارك الله لك في مالك وزوجك، ولكن دلني
على السوق، وعمل بالتجارة وربح مالا كثيرا" (أخرجه البخاري ومسلم)، وكان
ماهرا بالتجارة وربح الكثير حتى إنه كان من أغنى أغنياء المدينة، وكان شجاعا
مقداما بارعا جوادا متواضعا زاهدا.
جهاد عبدالرحمن عوف[2]
كان من الطبيعي أن يشهد عبدالرحمن بن عوف كافة المشاهد مع
النبي صلى الله عليه وسلم، فقد شهد بدرا، وثبت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم
يوم أحد، حتى إنه حصلت له إصابات بالغة، فقيل إنه أصيب يوم أُحد بعشرين جراحة، وأن
إحدى هذه الإصابات تركت عرجًا دائمًا في إحدى ساقيه، كما سقطت يوم أحد بعض أسنانه،
فتركت خللًا واضحًا في نطقه وحديثه.
ومن مواقف بطولته ما كان في يوم أحد، فقد كان من النفر القليل
الذي ثبت مع النبي صلى الله عليه وسلم، ولم يفر كما فر غيره، ويحكي الحارث بن
الصمة فيقول: سألني رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم أحد وهو في الشعب فقال:
"هل رأيت عبد الرحمن بن عوف؟" فقلت: نعم رأيته إلى جنب الجبيل وعليه
عسكر من المشركين فهويت إليه لأمنعه فرأيتك فعدلت إليك، فقال رسول الله صلى الله
عليه وسلم: "إن الملائكة تمنعه" قال الحارث: فرجعت إلى عبد الرحمن فأجد
بين يديه سبعة صرعى فقلت: ظفرت يمينك؛ أكل هؤلاء قتلت؟ فقال: أما هذا لأرطاة بن
شرحبيل، وهذان فأنا قتلتهم وأما هؤلاء فقتلهم من لم أره قلت: صدق الله ورسوله.
عبد الرحمن بن عوف ونظرة الإسلام إلى المال
يفهم البعض زورا أن الإسلام دين الفقر والفقراء، والرضا
بالقليل والزهد الكاذب، ولا يتعلمون من صحابة رسول الله الذين انطلقوا يجوبون
الأرض فاتحين، صانعين بأيديهم أعظم حضارة في تاريخ البشرية، فالإسلام ليس دين
الفقر والضعف، وإنما دين العزة والكرامة في أبهى صورها، وكافة أشكالها، فالمؤمن
القوي خير وأحب إلى الله من المؤمن الضعيف كما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم
فيما رواه مسلم، وقد جسد ذلك المعنى بعض صحابة النبي حين أتقنوا صناعتهم ففتحت
عليهم الدنيا، لكنهم جعلوها في أيديهم ولم تكن لحظة في قلوبهم، وعلمهم الإسلام أن
تكون نظرتهم للمال نظرة وسطية، لا إفراط ولا تفريط، نابعة من قول الله تعالى: (وَابْتَغِ فِيمَا آتَاكَ اللَّهُ الدَّارَ الْآخِرَةَ ۖ
وَلَا تَنسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيَا) (القصص:77)، فالمال في الإسلام وسيلة لا غاية، مثلها في ذلك مثل العلم
والعمل والسلام اللازم للجهاد وإعداد الأمة، هي وسائل لازمة لريادة الأمة وقيامها
بمهامها في مشروع الهداية الذي اصطفاها الله له.
إن المال في الإسلام مال الله، والناس فيه خلفاء، فمنهم من
يؤدي حقه مثل عبدالرحمن بن عوف، ومنهم من يمنعه أصحابه مثل من ظلموا أنفسهم وشحوا
وبخلوا، فخانوا الله ورسوله، أما من يصور الإسلام بهذا الشكل الذي عليه المسلمون
اليوم، فهو مخادع ومزور ومزيف للمفاهيم الأصيلة التي أتى بها الإسلام ليسود
العالم، لقد كانت ثروة ابن عوف هائلة، حتى إنه ترك ميراثا وصفه الإمام أحمد في
مسنده من حديث أنس، رضي الله عنه، "أن عبد الرحمن أثرى، وكثر ماله، حتى قدمت
له مرة سبعمائة راحلة تحمل البر والدقيق"، وقال: ترك ألف بعير، ومائة فرس،
وثلاثة آلاف شاة ترعى بالبقيع.. وكان نساؤه أربعا، فاقتسمن ثُمنهن، فكان ثلاثمائة
وعشرين ألفا، لكل واحدة منهن ثمانين ألفا، وهذا هو الثمن فقط، وقد بلغت ثقته
باحترافه في مجال التجارة، أنه قال: لقد رأيتني ولو رفعت حجرا لرجوت أن أصيب ذهبا
أو فضة.
ولذلك، فقد كانت لعبدالرحمن بن عوف عند رسول الله صلى الله
عليه وسلم مكانة عالية، فعن أبي سعيد الخدري: "كان بين خالدِ بنِ الوليدِ
وبين عبدِالرحمنِ بنِ عوف شيءٌ، فسبَّه خالدٌ، فقال رسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه
وسلَّمَ: "لا تسُبُّوا أحدًا من أصحابي، فإنَّ أحدَكم لو أنفق مثلَ أُحُدٍ
ذهبًا، ما أدرك مُدَّ أحدِهم ولا نَصِيفَه" (أخرجه البخاري ومسلم)،
وإشادة به قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لعائشة: "لا يحنو عليكن من بعدي
إلا الصابرون، سقى الله ابن عوف من سلسبيل الجنة"
وفاته رضي الله عنه
توفي عبد الرحمن بن عوف سنة 32 هـ في خلافة عثمان بن عفان،
وهو ابن اثنتين وسبعين سنة، وكان قد أَوصى لمن بقي من أهل غزوة بدر لكل رجل
أَربعمائة دينار، وكانوا مائة، فأَخذوها، وأَخذها عثمان فيمن أَخذ: وأَوصى بأَلف
فرس في سبيل الله. ودُفِن في البَقِيع، وصلَّى عليه عثمان بن عفان، ويقال الزبير
بن العوام، وكان علي بن أبي طالب يقول في جنازته: اذهب ابن عوف فقد أدركت صفوها
وسبقت رنقها. وكان سعد بن أبي وقاص فيمن حمل جنازته فكان ممسكًا بقائمتي السرير
وهو تحته يقول: واجبلاه. ورُوِي أنه أُغمي عليه قبل وفاته[3]،
رحم الله الغني الزاهد، العابد الشاكر عبد الرحمن بن عوف.
[1] سير
أعلام النبلاء، للذهبي.
[2] الدكتور
راغب السرجاني، موقع قصة الإسلام.
[3] الدكتور
راغب السرجاني، قصة الإسلام.