عبقرية السياسة النبوية في «فتح خيبر»

محمد الحداد

14 سبتمبر 2025

220

إن كان من حقيقة أثبتها التاريخ بشأن غلبة أمة على أمة: هي أن النصر لا تحققه المعارك العسكرية وحدها، فالقوة التي لا تحوطها سياسة رشيدة لن تؤدي إلى النصر قطعًا.

وحقيقٌ بالفاحص في أروقة التاريخ التفتيش حول عبقرية السياسة النبوية التي حاطت الغزوات العسكرية، فهي معين صافٍ أحيا أمة عظيمة من العدم، وها نحن نلتمس رشفات منه في غزوة خيبر المباركة.

مواجهة العدو الأخطر وتحييد غيره

قد كانت الرؤية النبوية واضحة في أولوية التخلص من الرأس المُحرِّض القادر على الحشد والتوجيه وإن كان أقل قوة من الجهة العسكرية، وقد كان ذلك هو حال أهل خيبر، فهم من حزَّبوا الأحزاب على المسلمين فتم حصارهم في المدينة في العام الخامس للهجرة حتى اضطُروا إلى الخندق ليحتموا به، وهم من حرَّضوا بني قريظة على خيانة تحالفهم مع المسلمين، وهم من وجّهوا عملاءهم من المنافقين إلى التجسس على المسلمين ونقل تحركاتهم إليهم، وهم من حاولوا اغتيال النبي صلى الله عليه وسلم، وكل هذا لم يفت على القيادة المسلمة حينئذ، ولكنها أخَّرت الحساب حتى موعد تحييد العدو الأشد بأسًا والأكثر عددًا وعتادًا؛ وهو قريش.

اختيار التوقيت المناسب

وإن عاملًا لا يقل أهمية عن الحشد العسكري في المعارك؛ وهو اختيار الوقت الأنسب للمعركة، وذلك مما قامت به السياسة النبوية على الوجه الأكمل، فبعد انفضاض الأحزاب يوم «الخندق» علم النبي صلى الله عليه وسلم بانتهاء عصر غزو العدو له وابتداء عصر غزوه للعدو فقال: «اليوم نغزوهم ولا يغزوننا»، ووقّت التوقيت المناسب لكل معركة، فأجّل غزو قريش وأقام الهدنة معهم بـ«صلح الحديبية» في ذي القعدة من العام السادس للهجرة، ورجع إلى المدينة فأقام فيها ذا الحجة وبعض المحرم، ثم انطلق في بقيته إلى فتح «خيبر»، وسرعته في أخذ هذا القرار بعد مدة يسيرة من رجوعه إلى المدينة تدل على أن اختياره لهذا الوقت مبني على تفكير إستراتيجي قديم بتأخير معارك وتقديم غيرها، وليس وليد تلك اللحظة، فقدْ فقدَ أهلُ خيبر زخمَ حلفاءهم، وجاء الوقت المناسب لغزوهم.

الحرب النفسية

وللحرب النفسية وقع في نفوس العدو قد يفوق القوة العسكرية أضعافًا، وقد كان من عادة النبي صلى الله عليه وسلم التورية في الغزوة بغيرها، وزاد على ذلك في غزوة «خيبر» أن كان تحركه إليها في الليل دون أن يشعر أهلها به، حتى إذا أصبح الصباح ومع ضوء الشمس وأهل خيبر خارجون لزراعتهم؛ باغتهم بظهوره وجيشه أمامهم، فبث فيهم الرعب، فهربوا إلى مدينتهم خائفين وهم يصيحون: محمد والله، محمد والخَمِيس، فقال النبي صلى الله عليه وسلم قولة الواثق مثبتًا المسلمين: «الله أكبر خَرِبت خيبر، الله أكبر خربت خيبر، إنا إذا نزلنا بساحة قوم فساء صباحُ المنذَرين»، وذلك قبل أن يتقدم صلى الله عليه وسلم لاختيار معسكره حتى يضرب على حصونهم الحصار.

وكذلك ما صنع أصحابه صلى الله عليه وسلم حال المعركة بتخويف العدو من لقائهم، مثل قول عامر بن الأكوع رضي الله عنه قبل مبارزته عدوه:

قد عَلِمت «خيبر» أني عامر       شاكي السلاح بطل مُغَامِر

وقول علي بن أبي طالب رضي الله عنه عند مبارزته لمرحب بطل خيبر:

أنا الذي سمتني أمي حَيْدَرَة

كلَيْثِ غابات كَرِيه المَنْظَرَة

أُوفيهم بالصَّاع كَيْل السَّنْدَرَة

استشارة الكفاءات لا الثقات فحسب

والمفاضلة بين أهل الثقة وأهل الكفاءة مما أفسد السياسة في واقعنا المعاصر، فوُسدت أمور عظام إلى غير أهلها بدعوى الحفاظ على رأس السلطة والنظام، ولم تكن تلك المفاضلة مطروحة في السياسة النبوية، فقد شهد فتح «خيبر» أفاضل الصحابة وأقربهم إلى النبي القائد صلى الله عليه وسلم، ومع ذلك فقد أخذ برأي مَن هو دونهم في المنزلة وهو الصحابي الجليل حباب بن المنذر رضي الله عنه في اختيار مكان المعسكر، لأنه كان خبيرًا بالأمر، فقد أشار على النبي صلى الله عليه وسلم التحول عن منزله لقربه من حصن «نَطَاة» الذي يحوي خيرة مقاتلي خيبر، لأنهم بذلك سيكتشفون أحوال معسكر المسلمين، وسيسهل عليهم رميهم بالنبال دون العكس، فضلًا عن أنه مكان غائر ليس مُهيأً للمعسكر، فأخذ النبي صلى الله عليه وسلم بمشورته، وأفاد ذلك المسلمين غاية الإفادة في مجريات المعركة.

اختيار القيادة المناسبة للمعركة

لم تكن اختيار القيادة العسكرية في السياسة النبوية يومًا حكرًا على أُناس دون أُناس، كما هي الحال في الجيوش المعاصرة، وذلك أسلم لمصلحة عموم المسلمين الذين لن يتأثروا باستمالة قيادتهم العسكرية من الأعداء أو تحولها عن الغاية أو ثباتها على طريقة واحدة قد لا تناسب الظروف المتغيرة للحروب، ولذلك تناوب عدد من الصحابة قيادة الجيش النبوي، فقد يصير القائد اليوم جندياً غدًا، والعكس، بلا أدنى حرج، فغايتهم جميعًا مصلحة واحدة.

وقد اختار النبي صلى الله عليه وسلم قائد جيش خيبر وهو علي بن أبي طالب دون أبي بكر، وعمر، رضي الله عنهم جميعًا، وهما أفضل منه، وذلك لمناسبته تلك المعركة كثيرة المبارزات، فقد كان مسعر حرب ليس له نظير، وقد ظهر ذلك في مبارزته مع مرحب، ذلك المقاتل الذي كانوا يعدونه بألف رجل، والذي قتله علي رضي الله عنه بضربة على رأسه سُمع صوتها وهي تكسر أسنانه من شدتها، وأثرت تلك المبارزة على معنويات جيش المسلمين بالإيجاب وعلى جيش خيبر بالسلب؛ ما انعكس على مجريات المعركة، وقد شرع جيش المسلمين بعدها في فتح حصون خيبر الثمانية حصنًا حصنًا.

التقوَّي بالمال على خوض الصراعات

كم حُسمت صراعات شديدة لأجل توافر الثروات والإمدادات عند طرف من أطراف النزاع دون الآخر، وقد كانت السياسة النبوية مراعية لذلك، فإن خيبر من المراكز الاقتصادية الكبرى في جزيرة العرب، وبفتحها سيجني المسلمون مغانم كثيرة يتقوَّوا بها على فتح سائر أنحاء الجزيرة العربية، وقد كان؛ فقد فُتحت بعض حصون خيبر بالحرب وأدرَّ ذلك على المسلمين مالًا كثيرًا، وقد فتحت بعض الحصون صُلحًا؛ ولكن على شرط أن يتركوا ما كان لهم من مال وأرض وذهب وفضة وسلاح، وبهذا الشرط فقط تم تسليم الحصون جميعًا إلى المسلمين وانتهت غزوة خيبر، وأغنى ذلك المسلمين غنى لم يشهدوا مثله قبل خيبر، وانطلقوا يفتحون أرضًا بعض أرض حتى تم لهم فتح جزيرة العرب.

التفاوض من موقع القوة

أثبت التاريخ أن المُفاوِض الجيد هو المفاوض من موقع قوة سبق وأن فرضها بانتصاراته العسكرية، حتى يضمن إنفاذ عدوه ما سيتفقون عليه من شروط، وقد قبِل النبي صلى الله عليه وسلم مفاوضة زعماء خيبر بعد الضغط العسكري الشديد عليهم بفتح عدد من حصونهم، وذلك بعد أن طلب المفاوضات ابن أبي الحُقَيْق، فتم الاتفاق على إجلاء أهل خيبر جميعًا بسلام، وذلك بشرط تركهم المال والسلاح، وقال النبي صلى الله عليه وسلم له: «وبرئت منكم ذمة الله وذمة رسوله إن كتمتموني شيئًا»، فصالحوه على ذلك، ولما أخل ابن أبي الحُقَيْق بالاتفاق فكتم مالًا كثيرًا لديه؛ استطاع النبي صلى الله عليه وسلم اكتشاف ذلك، فأنفذ وعده فيه.


تابعنا

الرئيسية

مرئيات

العدد

ملفات خاصة

مدونة