لسان عربي مبين (1)
عروبة القرآن.. دلالة البيِّنة ومرامي التعقُّل والإنذار

يُعدّ وصف القرآن الكريم لنفسه بصفة «العروبة» من الصفات المحورية التي وردت في مواضع متعددة من الذكر الحكيم،
والمتأمل في هذه الصفة يجد ارتباطًا وثيقًا بينها وبين صفة «الإبانة»، التي تعني الوضوح والبيان واللسان الفصيح المفهوم، وقد اجتمعت الصفتان معًا في وصف اللسان الذي نزل به القرآن في أكثر من موضع؛ كقوله تعالى: (وَلَقَدْ نَعْلَمُ أَنَّهُمْ يَقُولُونَ إِنَّمَا يُعَلِّمُهُ بَشَرٌ لِّسَانُ الَّذِي يُلْحِدُونَ إِلَيْهِ أَعْجَمِيٌّ وَهَذَا لِسَانٌ عَرَبِيٌّ مُّبِينٌ) (النحل: 103).
إن العلاقة بين الصفتين ليست مجرد تلازم لفظي، بل هي علاقة لازمة ومقصدية؛ فـ«العروبة» هي القالب الذي يضمن تحقيق المقصد الأعلى وهو الإبانة؛ فتحقُّق البيان والوضوح من القرآن يقتضي أن يكون بلغة القوم الذين نزل فيهم؛ حتى يتمكنوا من فهمه، ووعيه جيدًا، وإبلاغه لمن حولهم دون لبس أو تحريف، وهذا ما قررته القاعدة القرآنية العامة: (وَمَا أَرْسَلْنَا مِن رَّسُولٍ إِلاَّ بِلِسَانِ قَوْمِهِ لِيُبَيِّنَ لَهُمْ) (إبراهيم: 4)؛ فوحدة اللسان شرط أساسي لحصول البيان وتمام الحجة.
وفي هذه السلسلة،
سنعرض للسياقات التي وصف القرآن فيها نفسه بأنه عربي، ثم نعرض لبعض القضايا
المتعلقة بعروبة القرآن؛ حيث سنتناول أثر القرآن الكريم في اللغة العربية، والحكمة
من اختيار الله تعالى للعربية لغة لكتابه دون سائر اللغات، وهل عروبة القرآن تطعن
في عالميته، ثم نعرض لقضية مهمة وهي الكلمات التي قيل: إنها أعجمية في القرآن،
ومدى تأثير هذا على عروبة القرآن.
سياقات وصف القرآن بأنه «عربي»
لم يأت وصف
القرآن بأنه «عربي» مجرد وصف للغة، بل جاء في سياقات مختلفة ومقاصد عليا تدعو إلى
التفكر والتدبر والعمل، أبرزها:
أولاً: سياق الدعوة إلى تعقل القرآن وفهم مراميه:
وصف القرآن بأنه
عربي كان متبوعًا في موضعين بالدعوة إلى إعمال الفكر والتعقل، كقوله تعالى: (إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ قُرْآنًا
عَرَبِيًّا لَّعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ) (يوسف: 2)، وقوله عز وجل: (إِنَّا جَعَلْنَاهُ قُرْآنًا
عَرَبِيًّا لَّعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ) (الزخرف: 3).
الملاحظ أنه في
كلا السياقين، أتت بعد آية العروبة والتعقل، آية تتحدث عن مكانة القرآن أو محتواه
العظيم؛ ففي سورة «يوسف»، أتبعت بقوله: (نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ أَحْسَنَ الْقَصَصِ) (يوسف: 3)، وفي
سورة «الزخرف» أتبعت بقوله: (وَإِنَّهُ
فِي أُمِّ الْكِتَابِ لَدَيْنَا لَعَلِيٌّ حَكِيمٌ) (الزخرف: 4)، هذا الربط
دعوة صريحة لإعمال العقل وفهم ما جاء في القرآن من آيات ودروس وعبر؛ فكتاب بهذه
الصفات وهذه المكانة لا يسع العقلاء إلا تدبره وإدراك مراميه والعمل بما جاء فيه.
ثانياً: سياق التذكير ورجاء التقوى:
جاء وصف القرآن
بأنه عربي مقرونًا برجاء تحقق التقوى في موضعين أيضًا، هما قوله تعالى: (وَكَذَلِكَ أَنْزَلْنَاهُ قُرْآنًا
عَرَبِيًّا وَصَرَّفْنَا فِيهِ مِنَ الْوَعِيدِ لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ أَوْ
يُحْدِثُ لَهُمْ ذِكْرًا) (طه: 113)، وقوله تعالى: (قُرْآنًا عَرَبِيًّا غَيْرَ ذِي عِوَجٍ
لَّعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ) (الزمر: 28) بعد آية (لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ) (الزمر: 27).
يُربط هنا بين
عروبة القرآن، والذكر والتقوى؛ فالقرآن نزل بلسانهم الواضح لكي يضرب الأمثال ويذكر
بمصائر الأمم السابقة، ليُثبِّت هذه العبر في ذاكرة الإنسان (يحدث لهم ذكراً/ يتذكرون)،
وهذا الوعي والاتعاظ هو السبيل لتحقق تقوى الله تعالى بفعل الأوامر واجتناب
النواهي.
ثالثاً: سياق الإنذار والإبلاغ العالمي:
من السياقات
المهمة التي وصف القرآن فيها نفسه بأنه عربي سياق الإنذار، وذلك في قوله تعالى: (وَإِنَّهُ لَتَنزِيلُ رَبِّ الْعَالَمِينَ
{192} نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الْأَمِينُ {193} عَلَى قَلْبِكَ لِتَكُونَ مِنَ
الْمُنذِرِينَ {194} بِلِسَانٍ عَرَبِيٍّ مُّبِينٍ) (الشعراء)، وكذلك قوله تعالى: (وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ قُرْآنًا عَرَبِيًّا
لِّتُنذِرَ أُمَّ الْقُرَى وَمَنْ حَوْلَهَا) (الشورى: 7).
كانت «أم القرى»
(مكة) منبع اللغة والفصاحة، وقبلة الأدباء والبلغاء؛ لذا نزل فيهم القرآن بلسانهم
العربي وبإعجازه البياني؛ لينطلق من خلالهم بالإنذار إلى من حولهم من القرى حتى
يصل إلى كل المعمورة، العروبة هنا هي نقطة الانطلاق العالمية للرسالة.
رابعاً: سياق رد شبهات المشككين في القرآن:
منذ بدء نزول
القرآن والتفاف المؤمنين به حوله، وارتباطهم به؛ توالت مظاهر التكذيب والتشكيك فيه
بصور متنوعة وأساليب مختلفة؛ ومن ذلك أنهم ادعوا أن هذا القرآن يعلمه للرسول صلى
الله عليه وسلم بشر، وردت روايات كثيرة في كتب التفاسير حوله (أورد صاحب زاد
المسير في علم التفسير تسعة أقوال حول شخصيته، زاد التفسير، 2/ 584، 585)، لكن هذا
الشخص الذي ادعوا أنه هو من علم الرسول صلى الله عليه وسلم القرآن كان أعجميًّا،
فرد الله عليهم ذلك في قوله تعالى: (وَلَقَدْ نَعْلَمُ أَنَّهُمْ يَقُولُونَ إِنَّمَا يُعَلِّمُهُ بَشَرٌ
لِّسَانُ الَّذِي يُلْحِدُونَ إِلَيْهِ أَعْجَمِيٌّ وَهَذَا لِسَانٌ عَرَبِيٌّ
مُّبِينٌ).
يقول الزمخشري
في تفسيره: «لسان الرجل الذي يميلون قولهم عن الاستقامة إليه لسان أَعْجَمِيٌّ غير
بيِّن، وَهذا القرآن لِسانٌ عَرَبِيٌّ مُبِينٌ ذو بيان وفصاحة؛ ردًّا لقولهم
وإبطالاً لطعنهم» (الكشاف، 2/ 635).
خامساً: سياق التحذير من اتباع سبيل المشركين:
جاءت العروبة
هنا مقرونة بالتحذير، كقوله تعالى: (وَكَذَلِكَ أَنْزَلْنَاهُ حُكْمًا عَرَبِيًّا وَلَئِنِ اتَّبَعْتَ
أَهْوَاءَهُم بَعْدَ مَا جَاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ مَا لَكَ مِنَ اللهِ مِن وَلِيٍّ
وَلاَ وَاقٍ) (الرعد: 37).
هذا السياق يحمل
معنى الامتنان والتشريف للرسول صلى الله عليه وسلم وقومه بإنزال حكم الله بلغتهم
التي يعتزون بها؛ ليكون ارتباطهم به ذا بُعد قومي (لغوي) بالإضافة إلى البعد
الإيماني؛ فهي مِنَّة تستوجب التمسك به والتحذير الشديد من الحياد عنه إلى أي سبيل
آخر أو اتباع أهواء المشركين.
ركيزة تأسيسية للبيان
وفي النهاية،
فإن استعراض هذه السياقات يوضح أن وصف القرآن لنفسه بـ«العربي المبين» ليس مجرد
إشارة للغة النزول؛ بل هو ركيزة تأسيسية للبيان والإعجاز والمنهج؛ فالعروبة كانت
وسيلة للتعقل، والتقوى، والإنذار، ورد الشبهة.
وفي ضوء هذا التأسيس القرآني لعروبة الكتاب، يبرز التساؤل عن الأثر العميق الذي أحدثه هذا النزول في صلب اللغة العربية نفسها، وكيف أسهم القرآن في توحيدها وصقلها وتطويرها، وهذا ما سيكون محور مقالنا التالي في هذه السلسلة، لننتقل بعدها لمناقشة الجدل حول وجود لهجات غير عربية في هذا اللسان العربي المبين.
اقرأ
أيضاً:
- "النحو".. تعريفه ودوره في فهمالنص الديني