ثم كذبوك يا محمد ﷺ (4)
عهود اليهود

ليس أدلّ على يقين يهود من أن محمدا، صلى الله عليه وسلم، هو النبي الخاتم من سعيهم وراء بشارة التوراة به، وضربهم في الأرض العريضة لانتظاره في أرض مهاجره(1)، تلكم الأرض التي طالعتهم التوراة بصفتها، فلمّا فرّوا من مخالب الرومان المسيحيين من أرض اليمن اختاروا شمال الجزيرة العربية دون غيرها من الأرض لسببين، أولهما: أن التوراة والإنجيل قد بشرا بخروج النبي الخاتم من جبال فاران(2)، وثانيهما أنه سوف يهاجر إلى يثرب الأرض السبخة ذات النخيل.
ومن السبب الأول يتضح السبب الثاني،
فقد وصفتها البشارة بأنها أرض سبخة ذات نخيل، أي أنها أرض خصبة وخيِّرة، لذا فرَّ
اليهود إلى شمال الجزيرة انتظارًا للنبي الخاتم ليتّبعوه ويقاتلوا أعداءهم معه
لاسترداد مُلكهم المسلوب، وفي الوقت الذي كان يلتهب فيه الصراع بين العرب أصحاب
الأرض من الأوس والخزرج، كانوا هم يقيمون مستعمراتهم الحصينة، ويسهرون على إذكاء
الخصام بينهما لتخلو لهم الأرض الطيبة، ولمّا كانت التوراة صادقة في بشارتها ألفَوا
الأرض خصبة ذات نخيل، فأجادوا استغلال هذا القسم من البشارة، وجعلوا يستنزفون
خيرات الأرض بذكائهم الخبيث، ويحوّلونها إلى أموال مُكدّسة داخل حصونهم.
وطفقوا ينتظرون تحقيق القسم الثاني
من البشارة وهو ظهور النبي الخاتم، وكثيرًا ما منّوا على العرب واسمين أنفسهم
بأنهم أهل كتاب، وكثيرًا جدًا ما توعدوهم مُصَرِّحين بمكنون غدرهم (إن النبي
الخاتم قد أطلّ زمانه، وسوف نتبعه لأننا أهل كتاب، وسنقتلكم قتل عاد وإرم)(3)، ظنًا
منهم أن الله يرسل أنبياءه وفقًا لأهوائهم، ورغباتهم.
ويدور الزمان وتزامله الأحداث في
الدوران، وتشرُف الدنيا بحدث مبعث النبي الخاتم، صلى الله عليه وسلم، وتشمخ مكة
بخروجه منها، وتَسُود يثرب بهجرته إليها، تمامًا كما ورد في التوراة والإنجيل،
ولكن لماذا أصرّ اليهود على يهوديتهم، وناصبوه العداء؟
لا لشيء إلّا بغيًا من عند أنفسهم،
وحسدًا للعرب الذين نقل الله النبوّة إليهم واصطفى منهم رسولًا إلى الناس كافة،
وكان اليهود يأملون خروجه منهم، واسترداد مجدهم به، وبناء مملكتهم التي يحلمون
بها، ولكن خروجه من العرب وسرعة اتباع الأوس والخزرج له حال بينهم وبين أطماعهم
المتوغلة في خيالهم المريض، وليس أنصع دليلًا، ولا أبين برهانًا من نبأ موثق ورد
عن السيدة صفية بنت حُيي عن حدث وقع يوم هجرته، صلى الله عليه وسلم إلى يثرب، قالت
رضي الله عنها: "كنت أحبّ ولد أبي إليه وإلى عمي أبي ياسر، لم ألقاهما قط مع
ولدهما إلا أخذاني دونه، فلما قدِم رسول الله، صلى الله عليه وسلم المدينة، ونزل
قباء في بني عمرو بن عوف، غدا عليه أبي حيي بن أخطب، وعمي أبو ياسر بن أخطب مغلسين(4)، فلم
يرجعا حتى كانا مع غروب الشمس، فأتيا كالَّين كسلانين ساقطين يمشيان الْهُوَيْنَا،
فهششت إليهما كما كنت أصنع، فوالله ما التفت واحد منهما إليَّ، مع ما بهما من
الغمِّ، وسمعت عمي أبا ياسر يقول لأبي حيي بن أخطب: أهو هو، قال نعم والله، قال:
أتعرفه وتثبته؟ قال: نعم، قال: فما في نفسك منه؟ قال: عداوته والله ما بقيت"(5)،
وسبحان القائل (الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ
الْكِتَابَ يَعْرِفُونَهُ كَمَا يَعْرِفُونَ أَبْنَاءهُمْ وَإِنَّ فَرِيقاً
مِّنْهُمْ لَيَكْتُمُونَ الْحَقَّ وَهُمْ يَعْلَمُونَ) (البقرة: 146).
فكذَّبوه
إذ صدَقهم، وغشوه إذ نصحهم، وآذوه وهو الذي أراد الخير لهم، فراحوا يجادلونه تارة،
ويتطاولون عليه أخرى، ولم يقفوا عند هذه أو تلك، وإنما سحروه وتعددت محاولاتهم
لقتله.
فقد
حدث في العام الرابع الهجري أن قتل عمرو بن أمية الضمري، رضي الله عنه، رجلين من
بني عامر ثأرًا لشهداء بئر معونة، وكان بنو عامر على عهد وجوار مع النبي، صلى الله
عليه وسلم، لم يعلم به عمرو بن أمية، فآلم ذلك النبي وشقّ عليه، وقال لعمرو: "لقد قتلتَ قتيلين لأدِيَنَّهما"(6) (7).
وقد
كان بمقدوره، صلى الله عليه وسلم، أن يُقدّر فعل عمرو بن أمية انتقامًا لقتل
أصحابه ولا يدفع ديتهما، ولكنه الوفاء النبوي الذي لم يؤرخ له التاريخ نظيرًا، ولم
تعرف له الدنيا مثيلًا، وما أراده النبي كان وجاء ذوو القتيلين لأخذ ديتهما، وكان
بينه صلى الله عليه وسلم واليهود معاهدة مكتوبة ومن بنودها: "وأن اليهود
ينفقون مع المؤمنين ماداموا محاربين.. على كل أناس حصتهم من جانبهم الذي قبلهم"(8)،
ولما كان بنو النضير إحدى طوائف اليهود المشتركة في المعاهدة فقد أتاهم صلى الله
عليه وسلم في ديارهم بصحبة أبي بكر وعمر وعلي رضي الله عنهم، ليتحملوا نصيبهم
بمقتضى المعاهدة المقطوعة، ورغم تصريح ظواهر اليهود بالاحتفاء بالنبي صلى الله
عليه وسلم كان لبواطنهم شأن آخر، ولأنهم والشّرَّ أخوان ولا غنى لأحدهما عن الآخر
فقد كان لبواطنهم شأن آخر، لأن أحقادهم ما سكنت إلى الخير يومًا، وما كان لها أن
تسكن وهم خير قوم في طاعة الشيطان وما تأتت له طاعة من غيرهم مثلما تأتت منهم، منذ
أحداث الهجرة الشريفة إلى أحداث اليوم بغزة.. كان لبواطنهم شأن آخر، لأن خبثهم
متميز وفريد من نوعه، ويندر جدًا أن يوجد في تاريخ البشر خبث يضارعه.. بدت عهودهم
كألواح الثلج إذا لامستها أشعة الشمس، ولسنا بحاجة لإثبات سرعة ذوبان عهودهم تحت
أشعة خبثهم إلى يومنا هذا، فقد أثبتت ذلك العهود والمواثيق والأحداث.
أجل
بدت عهودهم كألواح الثلج وتآمروا على قتله صلى الله عليه وسلم، نفثوا سمومهم في
آذان بعضهم: (إنها فرصة قد لا تتاح لكم فتخلصوا من الرجل بقتله)(9)، حتى طريقة
القتل التي استحسنوها وراقت لهم لا تشي إلا عن قلوب شاع فيها الجبن وملك أمرها،
فقد اختاروا "عمرو بن جحاش" ليصعد فوق سطح الدار التي أجلسوا النبي، صلى
الله عليه وسلم، في ظلها ليلقي فوقه رحى ثقيلة تقتله على الفور، وإني لأعجب من
جبنهم!
حيث لم يكن ثم إلا رسول الله صلى الله
عليه وسلم مع ثلاثة من أصحابه فحسب، وهم في ديار القوم وبين جموعهم، فلم لا يحملون
سيوفهم ويُقبلون عليهم في مواجهة صريحة؟! ولكن طبعهم الذي ملك الجبن سلطانه،
وخبثهم الذي تحكم في وجهة آرائهم ألجأهم إلى اختيار طريقة تُسنِّي لهم التنصل من
جريمتهم والإفلات بها، وتتجلى شجاعة ابن جحاش الزائفة وهو يقول: "أنا لذلك"،
ولكن الله عز وجل قد تكفَّل بعصمته، وخلَّدها في كتابة (وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ) (المائدة: 67)، فتأملوا إحدى معجزاته التي تبدَّى فيها دليل باهر على صدق
نبوته.
· لأن الأمر الإلهي كان قد صدر سالفًا بالعصمة الدائمة للحبيب
محمد طوى الأمين جبريل الآفاق بأمر ربه، وهبط من السماء إلى الأرض أسرع من صعود
ابن جحاش من الأرض إلى السطح، وأعلم المعصوم بالمؤامرة، فقام المعصوم وكأنه يريد
قضاء حاجة وعاد إلى المدينة، ولما استبطأه أصحابه لحقوا به، فأخبرهم صلى الله عليه
وسلم بالأمر، وحقَّق في اليهود قوله تعالى (وَتِلْكَ الْقُرَىٰ أَهْلَكْنَاهُمْ لَمَّا ظَلَمُوا) (الكهف:59)، وأعلن عليهم الحرب، وحاصرهم في حصونهم 15 يومًا، حتى نزلوا
على حكمه في ذل وصغار، وخرجوا من المدينة الطيبة بأموالهم دون أسلحتهم، وحملوا على
الإبل كل شيء، حتى إن بعضهم حمل باب الدار، وبعضهم قام بهدم سقف داره ليحمل
أخشابه، وسجَّل الله الحدث في كتابه فقال: ﴿ هُوَ الَّذِي أَخْرَجَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ
الْكِتَابِ مِن دِيَارِهِمْ لِأَوَّلِ الْحَشْرِ مَا ظَنَنتُمْ أَن يَخْرُجُوا
وَظَنُّوا أَنَّهُم مَّانِعَتُهُمْ حُصُونُهُم مِّنَ اللَّهِ فَأَتَاهُمُ اللَّهُ
مِنْ حَيْثُ لَمْ يَحْتَسِبُوا وَقَذَفَ فِي قُلُوبِهِمُ الرُّعْبَ يُخْرِبُونَ
بُيُوتَهُم بِأَيْدِيهِمْ وَأَيْدِي الْمُؤْمِنِينَ فَاعْتَبِرُوا يَا أُولِي
الْأَبْصَارِ * وَلَوْلَا أَن كَتَبَ اللَّهُ عَلَيْهِمُ الْجَلَاء لَعَذَّبَهُمْ
فِي الدُّنْيَا وَلَهُمْ فِي الْآخِرَةِ عَذَابُ النَّارِ * ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ
شَاقُّوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَمَن يُشَاقِّ اللَّهَ فَإِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ
الْعِقَابِ) (الحشر:2-4)
ولم يُسلم من بني النضير إلَّا رجلان
هما يامين بن عامر، وأبو سعيد بن وهب، وردّ عليهم النبي صلى الله عليه وسلم
أموالهم.
· وكان عليهم جميعًا أن يرشدوا لصدقك
يا رسول الله، ويتبعوك على دينك، بعدما كشف الله لك أمرهم وأقام دليلًا على صدق
نبوتك أمامهم، ولكنهم تمادوا في ضلالهم، ثم كذَّبوك يا محمد، صلى الله عليك وسلم.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(1) الأرض
التي هاجر إليها.
(2) المقصود بها جبال مكة.
(3) تفسير
ابن كثير للآية 89 من سورة البقرة.
(4) الغلس
أول ضوء النهار المختلط بظلام الليل.
(5) سيرة ابن هشام (1/519)، وعيون الأثر (1/277)، والبيهقي في الدلائل
(2/533)، والروض الأنف (2/376).
(6) سأدفع
ديتهما.
(7) أخرجه
ابن حبان في صحيحه (4651)، والبيهقي في دلائل النبوة (3/341)، والهيثمي في مجمع
الزوائد (6/131).
(8) وثيقة
المدينة (المضمون والدلالة) لأحمد قائد الشعيبي بند 38.
(9) هذا الحبيب يا محب، لأبي بكر جابر الجزائري / غزوة بني النضير.