غزة.. ملحمة الثبات ومدرسة الصمود

طارق الشايع

19 أكتوبر 2025

103

تقدّم غزة اليوم نموذجًا متفرّدًا في تاريخ حركات المقاومة والتحرير، فهي لا تشبه غيرها من التجارب، لأن معطياتها مختلفة كليًا؛ مساحة صغيرة محاصرة من كل الجهات، وكثافة سكانية خانقة، ودعم دولي غير محدود لعدوها، وتراجع الدعم الخارجي حتى كاد ينعدم أي ظهير إستراتيجي أو خطوط إمداد، ورغم ذلك، فإنها لا تزال واقفة شامخة، تقدّم للعالم درسًا جديدًا في أن الإرادة الصلبة والعقيدة الراسخة قادرتان على تحويل أضيق المساحات إلى ساحة كرامة وحرية.

اصطفاف خلف الاحتلال

لم يحدث في التاريخ أن اصطفّت قوى كبرى خلف قوة احتلال كما يحدث اليوم مع الكيان الصهيوني؛ فقد فتحت الولايات المتحدة وبريطانيا وألمانيا وفرنسا وإيطاليا وغيرها من الدول الغربية كل أبواب الدعم العسكري والاستخباراتي والسياسي، ووفرت غطاء غير مسبوق لآلة الحرب الصهيونية، وعطّلت أي محاسبة أو مساءلة في المحافل الدولية؛ ومع ذلك، لم تفلح هذه الجبهة العالمية في إخماد جذوة المقاومة أو إسكات صوت غزة.

 فعل وجودي

إن سرّ غزة يكمن في قدرتها على تحويل نقاط ضعفها إلى نقاط قوة؛ فالحصار الذي أرادوه خنقًا أصبح حافزًا للاعتماد على الذات والابتكار، والأنقاض التي خلّفها القصف تحولت إلى كمائنَ وفِخاخٍ تبتلع الغزاة وتردّ كيدهم في نحورهم، والأنفاق التي حفرت تحت الركام صارت شبكة حياة ومعركة لا تراها عين العدو.. هذا الصمود ليس مجرد فعل عسكري، بل هو فعل وجودي يؤكد أن هذه النفوس لا يمكن أن تُقتلع إرادتها مهما تكالبت عليها قوى الأرض.

وللتاريخ نماذجه المتعددة في المقاومة والتحرير؛ ولكل شعب طريقته الخاصة وظروفه التي صاغت تجربته، فالجزائريون قدّموا أنهارًا من الدماء في ملحمة الاستقلال، والأفغان توحّدوا رغم انقساماتهم ليهزموا قوة عظمى، وغيرهم كتبوا صفحات مجد في معاركهم ضد الظلم والجبروت.. أما غزة، فقد صنعت نموذجها المختلف، لا يقل عظمة عن سابقيه، لكنه قائم بذاته بظروفه واستثنائيته، إن الحديث هنا ليس عن مقارنة أو مفاضلة، بل عن التأكيد أن غزة أضافت إلى سجل التاريخ فصلًا جديدًا يليق بها وحدها.

رمز إنساني 

إن غزة اليوم ليست مجرد جغرافيا ضيقة، بل هي رمز إنساني خالد يثبت أن الشعوب قادرة على الصمود حتى في أقسى الظروف ومهما بلغت التضحيات، وهي رسالة للأمة والعالم أن الكرامة عهدٌ يُصان بعزائم لا تفتر، والحرية دربٌ يُشقّ بصبر لا ينكسر، وإرادة أبية تأبى الضيم وتأبى الخضوع.

وغزة بهذا المعنى لم تعد مجرد ساحة معركة، بل أصبحت منهاج ثبات، ونموذجاً باقياً يعلّم الأجيال أن النصر الحقيقي هو أن تبقى الأمة على عهدها وتستمرّ في سبيل الحق حتى ينبلج الفجر الموعود، وتُحصد ثمرة الصبر والنضال.

الجهاد باقٍ إلى يوم القيامة، وهو ذخيرة الأمة وسبيل نهوضها.

الرابط المختصر :

تابعنا

الرئيسية

مرئيات

العدد

ملفات خاصة

مدونة