«فات الميعاد».. مرآة الدراما والعنف الأسري

حاز مسلسل «فات
الميعاد» الذي عرض مؤخراً على الشاشات العربية على نسبة عالية من المشاهدة، وتصدر
محركات البحث في كثير من الأيام، وأثار الكثير من الجدل على منصات التواصل
الاجتماعي.
المسلسل ناقش
عدداً كبيراً من المشكلات الأسرية الساخنة التي تلامس أوجاع قطاع كبير من الجماهير
مع طرح جريء وشخصيات منسوجة بحرفية شديدة من خيوط الواقع المعقدة، فابتعدت عن
ثنائية الخير والشر الشهيرة في الدراما العربية، فلا يوجد في المسلسل ملائكة
وشياطين، ومن ثم فقد تأرجح رد فعل المشاهدين تجاه الشخصيات الرئيسة في المسلسل بين
التعاطف والنقد اللاذع.
العنف
الأسري
من أهم القضايا
التي أثارها المسلسل في حلقاته الأولى التي أكسبت المسلسل زخماً عند انطلاقته قضية
العنف الأسري الذي تتراوح نسب وقوعه في بلادنا العربية ما بين 6% و26%، وهذه
الأرقام هي المعلنة أو التي يتم الإبلاغ عنها.
بينما تشير بعض
الدراسات إلى أن امرأة عربية من بين ثلاث تعرضت للعنف المنزلي ولو مرة واحدة في
حياتها، وتشير بعض المؤسسات المناهضة للعنف ضد النساء أن هذه النسبة قد تصل إلى 44%،
وهي أرقام خطيرة وصادمة!
لذلك، حازت قضية
العنف الأسري على اهتمام المشاهدين للمسلسل، خاصة مع طريقة المعالجة التي تحاكي
الواقع فـ«مسعد» (الممثل أحمد مجدي) شخصية تبدو سريعة الغضب ولديه عدم قدرة على
التحكم في انفعالاته؛ ومن ثم يلجأ لاستخدام العنف البدني تجاه زوجته «بسمة»
(الممثلة أسماء أبو اليزيد).
ومع تكرار حوادث
العنف المنزلي الذي يتنوع بين الصفع والخنق، يتصاعد الخلاف وتلجأ «بسمة» للمحكمة
للحصول على حكم طلاق للضرر، وبمتابعة ما ينشر على منصات التواصل الاجتماعي سنجد أن
«بسمة» المعنفة في هذه المرحلة حازت على تعاطف الجمهور بصورة شبه مطلقة، بينما
انتشرت التحليلات النفسية لشخصية «مسعد» الذي يمارس العنف لشعوره بضعف التقدير
الذاتي أو لعدم قدرته على التواصل، أو لأن هذه هي الصورة المجتمعية المشوهة
للرجولة عندما تتعرض للاستفزاز.
جريمة
خلقية
الحقيقة التي لا
تقبل الشك أن هذا العنف الجسدي مرفوض، وليس له أي تبرير، وهو جريمة خلقية شنيعة
تفقد الحياة الزوجية السكن الناتج عن الأمان، وهو أهم ما تنشده المرأة في الزواج،
وهذا العنف ليس له أي علاقة بقوله تعالى: (وَاللَّاتِي تَخَافُونَ نُشُوزَهُنَّ فَعِظُوهُنَّ وَاهْجُرُوهُنَّ فِي
الْمَضَاجِعِ وَاضْرِبُوهُنَّ) (النساء: 34)، فالسياق يختلف تماماً، فالضرب
المذكور في الآية الكريمة لا علاقة له بالانتقام أو رد الفعل الانفعالي، وإنما هو
تكنيك رمزي في إطار تربوي لحالات خاصة.
أما العنف
البدني الذي نشاهده في واقعنا الاجتماعي والذي عرض له مسلسل «فات الميعاد» فهو عنف
جسدي يستخدم الصفع والخنق كرد فعل لموقف مأزوم أو عنف لفظي يقوم به الطرف الآخر
فيتم استخدام الصفعات كبديل للكلمات.
لكن ما علاج
العنف الأسري؟ ما الذي ينبغي للضحية المعنفة أن تقوم به؟ تنتصر الرؤية الدرامية
للمسلسل للطلاق باعتباره الحل الوحيد الذي يحمي الضحية، أو باعتبار أن العشرة قد
استحالت بالفعل بعد ارتكاب جريمة العنف، وهو الرأي الذي لاقى ترحيباً كبيراً على
منصات التواصل حيث طالبت «بسمة» بالطلاق مع أول مرة تعرضت فيها للعنف ورأت في
اعتذار «مسعد» وندمه جزءاً من تلاعب الشخصية السامة أو جزءاً من دورة العنف (التوتر
المتراكم.. الانفجار ووقوع الاعتداء.. الندم والاعتذار.. فترة هدوء.. تكرار).
والسؤال الذي
يطرح نفسه: هل هذا هو الحل الوحيد لعلاج جميع حالات العنف؟ وأيضاً هل هناك أمور قد
تمنع فتيل ثورة الغضب من الاشتعال فيتم كسر دائرة العنف؟
الضحية
المستفزة
ينبغي التفرقة
بين العنف الممنهج والعنف الذي يحدث بشكل استثنائي كرد فعل خاطئ تماماً للاستفزاز
أو الإهانة أو العنف اللفظي، وعندما نقول: خاطئ تماماً؛ فهذا يعني أنه مدان، وأنه
جريمة مهما بلغت درجة الاستفزاز، فهناك أدوات للحل غير العنف الجسدي حتى لو انتهت
العلاقة دون أذى؛ (فَإِمْسَاكٌ
بِمَعْرُوفٍ أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسَانٍ) (البقرة: 229).
لكن الجريمة في
القانون قد تخفف (ولا تسقط) بسبب سلوك الضحية الاستفزازي، وهو نفس الأمر الذي نريد
إسقاطه على العلاقة الزوجية، فالعنف الاستثنائي الناتج عن استفزاز الضحية لا ينبغي
أن يتساوى مع العنف الممنهج، وفي مسلسل «فات الميعاد» لم يكن «مسعد» بالرجل الذي
لا يضع العصا عن عاتقه، ولكن في مواجهة حالة من الصراخ وقائمة من الاتهامات (حرامي،
سرقتني، وصف منزل عائلته بالخرابة، ناس مهما حاولنا ننضفهم لا تحب النضافة!) حدث
العنف.
المشكلة أن هذه
الاتهامات والصراخ كانت عادة «بسمة» مع كل خلاف حتى لو كان بعيداً عن المشكلة
الرئيسة التي حدثت معهما، بل كانت عادتها حتى لو حدث ذلك أمام عائلة «مسعد» أو في
عرض الطريق.
هذه ليست قراءة تبريرية للعنف، وإنما هو مساق تفسيري يوضح أبعاد الجريمة، فالعنف اللفظي لا يقل بشاعة وقسوة عن العنف الجسدي، وفي حالة العنف اللاممنهج يمكن نزع فتيل التوتر بوقف العنف اللفظي، والبحث عن حلول وبدائل أخرى كالحوار الهادئ العقلاني أو توسيط طرف محايد، أو حتى اللجوء للحكمين، أو اللجوء للأهل والتهديد بالفراق، وكلها أدوات فعالة في الحل وأكثر جدوى من الصراخ والإهانات الموجعة والشتائم.
ما
بعد الطلاق
لم تقبل «بسمة»
الصلح، وأصرت على الطلاق رغم وجود طفلة ستعاني بعد ذلك معاناة قاسية خاصة في معركة
الحضانة، وستحرم من العيش في أسرة طبيعية بين أبويها، وستعاني كثيراً من
الاضطرابات والمواقف القاسية، ولا أستطيع أن ألومها على طلبها للطلاق بعد ما تعرضت
له من عنف جسدي أشعرها بالخوف وأفقدها الأمان، لكن لو تخيلنا رؤية درامية أخرى لم
تمارس فيها «بسمة» الاستبداد بالرأي والمحاسبة على أدق التفاصيل، والأهم بحثت عن
آليات أخرى للحل بعيداً عن العنف اللفظي والإهانات المؤلمة، وقتها هل كان «مسعد»
ليرتكب ما ارتكب من جرائم؟
بالتأكيد ليس
الهدف من هذه الرؤية براءة الجاني والتماس الأعذار له وتصوير جريمته كرد فعل، ولكن
الهدف إبراز دور الضحية السلبي في استفزاز الجاني أو دورها الإيجابي في كسر دائرة
العنف عن طريق نزع فتيل التوتر.
إن الرؤية
الدرامية للمسلسل قد ابتعدت كثيراً عن الواقع، وهي تغازل مشاعر النساء بعد الطلاق،
فبعد 3 سنوات فقط تزوجت «بسمة» من رجل أعمال ثري مثّل الدعم لها والأب لابنتها،
وجاءت التعليقات على منصات التواصل تبشر أن «بسمة جالها العوض»، فهل هذا ما يحدث
حقاً؟
تشير التقارير
إلى أن أكثر من 70% من النساء المطلقات في العالم العربي يواجهن تحديات مالية
واجتماعية، كما يعاني الأبناء من اضطرابات نفسية متنوعة، فهل تعمد القائمون على
العمل الدرامي التشويش على هذه الحقيقة بهدف دفع النساء اللاتي يعانين من اضطرابات
في حياتهن الزوجية لمحاكاة نموذج «بسمة»؟!