فتح بلاد الشام والقدس.. من التخطيط إلى العهدة العمريّة

لم ينتقل رسول الله، صلى الله عليه وسلم، إلى جوار ربه، إلا وقد جهز جيشًا آخر لغزو الروم، وأمّر عليه أسامة بن زيد رضي الله عنهما في آخر صفر 11هـ، ولكن وفاته، صلى الله عليه وسلم، أخرت خروجه، حتى أنفذه أبو بكر الصديق رضي الله عنه، في أول ربيع ثانٍ 11هـ، وقد استطاع الجيش تحقيق إنجازات مهمّة للدولة المسلمة الناشئة، ففي ظل ردة العرب، استطاع بعث أسامة، أن يؤكد جهوزية المسلمين للمرحلة القادمة من الفتوح، وأن بلاد الشام ستكون نقطة مفصلية في الحركة الحضارية للمسلمين.

التحضير لفتح الشام

عادت بلاد الشام إلى نصب اهتمام المسلمين بعد الانتهاء من حروب الردة، فجهز الخليفة أبو بكر، رضي الله عنه، الجيوش لانطلاق الفتوح، ففي عام 13 هـ أرسل أربعة جيوش إلى بلاد الشام، الأول: بقيادة يزيد بن أبي سفيان، رضي الله عنه، ووجهته دمشق. الثاني: بقيادة أبي عبيدة بن الجراح، رضي الله عنه، ووجهته حمص. الثالث: بقيادة عمرو بن العاص، رضي الله عنه، ووجهته فلسطين. الرابع: بقيادة شرحبيل بن حسنة، رضي الله عنه، ووجهته الأردن.

وقد أورد المؤرخون وصايا أبي بكر رضي الله عنه لقادة الجيوش المسلمة، وهي وصايا تحمل إشارات بالغة الأهمية، من حيث هدف المسلمين من هذه الفتوح، والثوابت الإسلامية في هذه التحركات العسكرية، فقد قال رضي الله عنه: "لا تعصوا ولا تغلّوا، ولا تجبنوا، ولا تحرقوا نخلًا ولا تعزقوه، ولا تعقروا بهيمةً، ولا تقطعوا شجرةً مثمرة، ولا تهدموا صومعة، ولا تقتلوا صغيرًا، ولا عجوزًا، ولا شيخًا كبيرًا...". وقد حملت هذه الوصايا التعليمات الأساسية لقادة المسلمين، وتضمنت جوهر الرسالة الحضارية التي يحملها المسلمون في الفتح.

ومن ثمّ قام أبو بكر رضي الله عنه بإرسال خالد بن الوليد، رضي الله عنه، من العراق مددًا للمسلمين في بلاد الشام، حيث خرج خالد من العراق في صفر 13 هـ على تسعة آلاف رجل، وتولى خالد قيادة الجيوش الإسلامية في الشام. وشكلت معركتا أجنادين في 27 جمادى الأولى 13 هـ، وفحل بيسان في 28 ذي القعدة 13 هـ، أبرز معارك المسلمين التي سبقت المعركة المفصلية في اليرموك، وقد حدثت هاتان المعركتان على أرض فلسطين، في دلالة على أهمية هذا الجزء من بلاد الشام، الذي انطلقت منه حركة فتوح الشام.

الطريق إلى بيت المقدس

بعد امتداد معارك المسلمين من فلسطين، إلى الأردن ودمشق وحمص في الشمال، بدأ البيزنطيون حشد قواتهم لمواجهة التحرك الإسلامي الخاطف، حيث حشد الروم كل إمكانياتهم العسكرية، والتي قدرها المؤرخون ما بين 100 و200 ألف جندي.

وبعد بلوغ أبي عبيدة خبر حشود الروم، قرر حشد جيوش المسلمين، التي كانت قد تفرقت لفتح المدن والقرى في الشام. بلغ جيش المسلمين نحو 36 ألفًا، من بينهم ألفٌ من الصحابة، منهم مائة ممن شارك في معركة بدر. ومع احتشاد الجيش الإسلامي في مقابل حشود الروم توفي أبو بكر الصديق وتولى عمر بن الخطاب رضي الله عنهما إمارة المؤمنين.

فوّض أبو عبيدة خالدًا في قيادة الجيش الإسلامي، الذي قام بتغيير تقسيم الجيش في مقابل الحشود البيزنطية، عبر تقسيمه الجند على شكل 4 "كراديس"[1]، وعيّن على كلّ منهم قائدًا، ووقفت النساء من خلف المقاتلين يحضضن على الجهاد.

في 5 رجب 15 هـ، وقعت المعركة الفاصلة، وقد استبسل المسلمون وقادتهم في القتال، حتى انهزم الروم، وقتل منهم خلقٌ كثير. وبعد اليرموك استطاع المسلمون بقيادة عمرو بن العاص رضي الله عنه فتح فلسطين، ما عدا قيساريّة والقدس، فاتجه عمرو إلى القدس وحاصرها، ثم تبعه أبو عبيدة وشارك معه في الحصار، وكان حصارهم للمدينة شتاءً، وصمد أهلها على الحصار أربعة أشهر، وأمام بسالة المسلمين، وبعد أن وجدوا بأنه لا طاقة لهم على هذا الحصار، طلب أهل القدس الصلح، إلا أنهم اشترطوا أن يعقد الخليفة عمر بن الخطاب رضي الله عنه بنفسه الصلح معهم.

 

عمر في القدس

صالح عمر أهل القدس وهو في منطقة الجابية، وكتب لهم ما اصطلح على تسميته بـ "العهدة العمرية"، وجاء في مقدمتها "هذا ما أعطى عبد الله عمر أمير المؤمنين أهل إيلياء من الأمان. أعطاهم أمانًا لأنفسهم وأموالهم، ولكنائسهم وصلبانهم، سقيمها وبريئها، وسائر ملتها، أنه لا تسكن كنائسهم ولا تهدم، ولا ينتقص منها ولا من خيرها...". وشهد على الوثيقة جملة من قادة المسلمين خالد بن الوليد وعمرو بن العاص ومعاوية بن أبي سفيان، وتم ذلك عام 15 هـ.


تتضارب الروايات حول تاريخ دخول عمر بن الخطاب رضي الله عنه إلى القدس، فبعضها يُشير إلى أنه في 13 رمضان، وبعضها الآخر في ربيع الآخر من عام 16 ه، وبعيدًا عن اختلاف الروايات فقد دخل الخليفة الراشد إلى الأقصى من الباب الذي دخل منه الرسول ليلة الإسراء، وفي المدينة عمل عمر بن الخطاب على إعادة الصبغة الإسلامية للمدينة، فقام بتنظيف ساحة المسجد الأقصى حتى ظهرت الصخرة، وأمر ببناء المسجد القبلي وكان بناءً من خشب، وقسم المناطق وعيّن على كلٍّ منها أميرًا، وعين في القدس قاضيًا للناس، وأسس جهازًا للحسبة لمراقبة الموازين، وعمليات البيع، ومراقبة نظافة الأزقة والدكاكين، وحضّ الناس على التجارة لما فيها من خيرٍ وبركة.


لقد بدأت في القدس مع الفتح العمري مرحلةٌ جديدة، من الاهتمام الإسلاميّ بالمدينة. حيث تُظهر قرارات عمر وتنظيماته الإدارية هذا الاهتمام، بالإضافة إلى رؤية ثاقبة لدى عمر لتحويل المدينة لنقطة جذب سكاني، فتسامحه مع سكان المدينة من المسيحيين، وعمارته للمسجد الأقصى، وتنظيم الأسواق والأجهزة الإدارية في القدس، خطوات كفيلة لجعل المدينة حاضرةً أساسية من حواضر المسلمين في الشام، لتتكامل مع أهمية المدينة على الصعد الدينيّة والحضارية.


جوهرة الفتوحات الإسلامية


فُتحت القدس في العصر الذهبي للإسلام، عصر الرعيل الأول من الصحابة الكرام، فلم تكن القدس حينها عنصرًا دافعًا على تطور الأمة ونهضتها، بقدر ما كانت ثمرة تميز ونهضة هذا الجيل، الذي تربى في محضن النبوة، فكانت القدس جوهرة الفتوحات الإسلامية في بلاد الشام، وقبلة جهودهم العسكرية، كما كانت قبلة صلاتهم في مرحلة مبكرة من الدعوة الإسلامية، وشكلت القدس المعيار الذي استأهلت فيه هذه الأمة أن تحقق الريادة والتفوق على الأمم الأخرى.


الظهور الأعظم


لقد حقق هذا الجيل الانتصار على أعظم القوى الموجودة على الساحة حينها، وقد كان التمسك بالإسلام والعزة بهذا الدين عوامل أساسية في معركة المسلمين مع أعدائهم، فقد كانت العزة الإسلامية ووحدة صف المسلمين في طاعة قيادتهم، عنوان التحرك الإسلامي في فتوحات بلاد الشام وغيرها من الفتوحات، حتى استطاعت صهر الجهود الإسلامية وتحقيق إنجازات هائلة توجت بفتح القدس، وعودتها للتوحيد مرةً أخرى. وهي الحالة التي تحقق لاحقًا ريادة حضارية ومعرفية وسياسيّة.

 

_____________



-    عماد الدين ابن كثير، البداية والنهاية، دار هجر، القاهرة، 1998، ج 9، ص 656.

-    أبو القاسم علي بن الحسن الشافعي ابن عساكر، تاريخ مدينة دمشق، دار الفكر، ج 20، ص 104.

-    عارف العارف، المفصّل في تاريخ القدس، دار المعارف، القاهرة، ط 2، ص 46.

-    محمود شاكر، التاريخ الإسلامي، المكتب الإسلامي، بيروت، 2000، ج 3، ص 141.

-    محمد رضا، أبو بكر الصديق أول الخلفاء الراشدين، دار القلم للطباعة والنشر، بيروت، ص 28.

-    جمال عبد الهادي مسعود، الطريق إلى بيت المقدس، دار الوفاء، القاهرة، ج 1، ص 55.

-    محسن محمد صالح، الطريق إلى القدس، مركز الزيتونة، ط 5، بيروت، 2012، ص 54.



 [1] الكرْدوسُ: القِطعة من الخيل العظيمة، والكَراديسُ: الفِرَقُ منهم. يقال: كَرْدَسَ القائدُ خيله، أي جعلها كتيبةً كتيبة.

 


الرئيسية

مرئيات

العدد

ملفات خاصة

مدونة