فخ عبادة المهنة!

في عصرنا الحديث، وخصوصًا في البيئات السريعة الإيقاع التي تُمجِّد الإنجاز والمنافسة، أصبح العمل بهدوءٍ يحلُّ محلَّ العبادة، فالكثير من الشباب اليوم ينزلقون -من غير وعي- إلى أن يصبحوا عبَّادًا للمهنة؛ أشخاصًا تستمد حياتهم معناها وهويتهم من مناصبهم أو إنجازاتهم المهنية، فيغدو العمل محور كيانهم ومصدر قيمتهم الذاتية.

وهذا ما يُعرف في علم الاجتماع الحديث بـ«عبادة العمل» (Workism)، وهي ليست حبًّا للعمل بحد ذاته، بل تألُّه العمل وجعله مصدر المعنى النهائي للحياة، ولو على حساب العبادة والعلاقات والصحة والمسؤولية الاجتماعية.

وقد حذّرنا الله تعالى من اتخاذ الأهواء والملذات أو المصالح الشخصية آلهةً تُعبد من دون الله، فقال جل شأنه: (أَفَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ) (الجاثية: 23).

فمن جعل شهوته أو مهنته أو مكانته غايته القصوى، فقد وقع في هذا المعنى الخطير من دون أن يشعر.

من هو عبد المهنة؟

عبد المهنة هو ذلك الإنسان الذي لا يعمل ليعيش، بل يعيش ليعمل، تصبح مهنته محور حياته والعدسة التي يرى بها نفسه والناس من حوله.

السمات الأساسية لعبد المهنة

1- ذوبان الهوية: يعرّف نفسه تمامًا من خلال مهنته، حتى إذا فقد وظيفته أو تغيّر موقعه شعر أنه فقد ذاته، وكأن وجوده مرتبط بالكسب والمركز لا بالإنسانية والإيمان.

2- إهمال الجوانب الأخرى للحياة: الأسرة والأصدقاء والصحة والعبادة كلها تتراجع أمام ضغط العمل، فيتناسون أن الله تعالى قال: (وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالإِنسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ) (الذاريات: 56).

فالعمل ليس غاية الوجود، بل وسيلة من وسائل العبادة إن ضُبطت بالنية الصالحة.

3- عبادة الجهد المستمر: يقيس قيمته بعدد ساعات العمل أو حجم الإنجاز، ويتفاخر بالإرهاق وكأنه وسام شرف، غافلًا عن أن الراحة عبادة، والتوازن طاعة.

4- الاعتماد على التقدير الخارجي: يعيش على المديح والترقية والإعجاب، فإذا انقطعت هذه المصادر شعر بالفراغ.

5- الأنانية في الطموح: ينشغل بصعوده المهني ولا يلتفت إلى إخوانه وأقاربه الذين يحتاجون إلى الدعم أو التعليم، فيغفل عن واجبه الاجتماعي والديني تجاههم.

الانزلاق غير الواعي إلى عبادة المهنة

الانزلاق إلى عبادة المهنة لا يحدث فجأة، بل يتسلل خلسة؛ حيث تبدأ القصة بطموح محمود، لكن حين يُفقد الاتزان وتُهمَل الغاية، يتحول الطموح إلى استعباد للذات.

لقد نبّهنا النبي صلى الله عليه وسلم إلى هذا المعنى حين قال: «تَعِسَ عبدُ الدِّينار، وعبدُ الدِّرهم، وعبدُ الخميصة..» (رواه البخاري)؛ فهو لا يقصد المال فقط، بل كل من جعل الدنيا ومكاسبها محور همّه وسعادته، فهو عبدٌ لما يملكه.

واليوم أصبح كثير من الناس عبيدًا للوظائف والمناصب كما كان الناس من قبل عبيدًا للدينار والدرهم.

التكلفة الخفية.. ضمور المسؤولية الاجتماعية

من يعبد مهنته يصبح منغلقًا على ذاته، غافلًا عن واجبه تجاه الآخرين؛ فهو لا يمدّ يد العون لأقاربه، ولا يسعى لتعليم الفقراء أو تمكين الشباب، ولا يُسهم في نشر الوعي المجتمعي.

إنه نموذج من الأنانية المقنَّعة بالنجاح، يرى في خدمة مجتمعه ترفًا لا واجبًا، لكن الإسلام جعل التكافل والرحمة ركنًا من أركان الإيمان، قال النبي صلى الله عليه وسلم: «لا يؤمن أحدكم حتى يحب لأخيه ما يحب لنفسه» (رواه البخاري، ومسلم)؛ فالمؤمن الحقيقي يجعل من مهنته وسيلة للخير لا غاية للذات.

الأثمان النفسية والروحية لعبادة المهنة

1- الاحتراق النفسي: الإرهاق المزمن والقلق والفراغ الداخلي نتيجة طبيعية لمن يعيش بلا توازن بين العمل والروح.

2- هشاشة الهوية: حين ترتبط قيمتك بوظيفتك، فإن أي فشل مهني يهز كيانك كله.

3- تآكل العلاقات: الأسرة والأصدقاء يصبحون متفرجين على نجاحك، لا شركاء في رحلتك.

4- الفراغ الروحي: حين يُستبدل العمل بالذكر؛ تفقد النفس سكينتها، لأن العمل لا يملأ فراغ القلب.

وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: «أعطِ كلَّ ذي حقٍّ حقَّه» (رواه البخاري)؛ فلكل جانب من حياتك حق؛ لبدنك، وأهلك، وربك، ومجتمعك، وعملك، وكلما ظلمت جانبًا منها اختل التوازن وسقطت البركة.

مؤشرات الانزلاق إلى عبادة المهنة

  • التفكير الدائم في العمل حتى في أوقات الراحة.
  • الشعور بالذنب عند التوقف أو الترفيه.
  • نسيان العبادات وتأجيلها بسبب ضغط العمل.
  • الغيرة من نجاح الآخرين.
  • ضعف الشعور بالواجب الاجتماعي.

وعند ظهور هذه العلامات، يجب أن يتوقف الإنسان مع نفسه وقفة صدق ومراجعة.

كسر الحلقة واستعادة التوازن

1- إعادة تعريف العمل: العمل عبادة إذا كان وسيلة لخدمة الله والناس، لا معبودًا يُقدَّس.

2- بناء هوية أوسع: احرص على أن تكون أبًا صالحًا، وصديقًا وفيًّا، وإنسانًا نافعًا قبل أن تكون موظفًا ناجحًا.

3- الشحن الروحي: اجعل الصلاة والصيام والذكر والقرآن مصدر طاقتك؛ قال تعالى: (أَلَا بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ) (الرعد: 28)؛ فالشحن الروحي هو ما يعيد ترتيب الأولويات، ويذكّرك بأن النجاح الحقيقي هو في رضوان الله، لا في رضا الناس.

4- إعادة تعريف النجاح: اسأل نفسك: هل أنا أنمو في إيماني وإنسانيتي كما أنمو في مساري المهني؟ هل أنا سبب في رفع غيري أم مجرد متسلق وحدي؟

المنظور الإيماني الشامل

يقول الله تعالى: (قُلْ إِنَّ صَلَاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ) (الأنعام: 162)؛ فكل عمل أو مهنة أو جهد ينبغي أن يكون لله، لا للذات أو الشهرة أو المكانة.

والمؤمن يعلم أن العمل أمانة، لا إله يُعبد، وأن النجاح الحقيقي هو أن تبقى قريبًا من الله مهما ارتقيت في الدنيا.

الحرية بعد العبودية للمهنة

العمل قيمة سامية، لكنه يصبح وثنًا خفيًّا حين يحتل قلب الإنسان، والحرية الحقيقية هي أن تعمل وأنت تعلم أن عملك لله، لا أن تعمل لأنك لا تقدر على التوقف؛ فمِهنتك وسيلة، لا هوية، ووظيفتك مورد، لا معبود، ونجاحك الحقيقي أن تظلَّ عبدًا لله، لا عبدًا للمهنة.

الرابط المختصر :

كلمات دلالية

تابعنا

الرئيسية

مرئيات

العدد

ملفات خاصة

مدونة