فضل الذكر المضاعف.. كلمات قليلة بأجر عظيم
روى مسلم في
صحيحه عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ عَنْ جُوَيْرِيَةَ رضي الله عنها، أَنَّ النَّبِيَّ
صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ خَرَجَ مِنْ عِنْدِهَا بُكْرَةً حِينَ صَلَّى
الصُّبْحَ، وَهِيَ فِي مَسْجِدِهَا، ثُمَّ رَجَعَ بَعْدَ أَنْ أَضْحَى وَهِيَ
جَالِسَةٌ فَقَالَ: «مَا زِلْتِ عَلَى الْحَالِ الَّتِي فَارَقْتُكِ عَلَيْهَا؟»،
قَالَتْ: نَعَمْ، قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «لَقَدْ
قُلْتُ بَعْدَكِ أَرْبَعَ كَلِمَاتٍ ثَلَاثَ مَرَّاتٍ، لَوْ وُزِنَتْ بِمَا
قُلْتِ مُنْذُ الْيَوْمِ لَوَزَنَتْهُنَّ: سُبْحَانَ اللهِ وَبِحَمْدِهِ، عَدَدَ
خَلْقِهِ، وَرِضَا نَفْسِهِ، وَزِنَةَ عَرْشِهِ، وَمِدَادَ كَلِمَاتِهِ».
في هذا الموقف، يُبيِّن
النبي صلى الله عليه وسلم أن هذه الكلمات الأربع في ظاهرها قليلة العدد والوقت،
لكنها من الذكر المضاعف الذي يفوق في الأجر ساعاتٍ طويلة من الذكر؛ لأن فيها تعظيم
لله بعدد خلقه ورضا نفسه وزنة عرشه ومداد كلماته، وكلها عبارات تُعبّر عن مضاعفةٍ
لا تُحصى من الثواب.
الذكر المضاعف أعظم في الأجر والثواب
الذكر لا يُقاس
بطول وقته أو كثرة كلماته، بل بعمقه وصيغته وإخلاص صاحبه، فقد يقول العبد كلماتٍ
معدودة لكنها تفتح له أبواب الأجر بقدر نياته ومعانيها العظيمة، ففي معنى الحديث
السابق قال الملا علي القاري: «لوزنتهن»؛ أي: لترجحت تلك الكلمات على جميع
أذكارك وزادت عليهن في الأجر والثواب، أو لساوتهن، أي: ساوتهن أو غلبتهن، وفيه
تنبيه على أنها كلمات كثيرة المعنى لو قوبلت بما قلت لساوتهن(1).
بل إنه صلى الله
عليه وسلم أكد أن بضع كلمات يقولهن الذاكر يبلغ بهن ما لا يبلغه غيره إلا من أتى
بمثله، فقد روى أحمد، والطبراني، بسند صححه الألباني عَنْ أَبِي أُمَامَةَ قَالَ:
خَرَجَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَنَا جَالِسٌ أُحَرِّكُ
شَفَتَيَّ، فَقَالَ: «بِمَ تُحَرِّكُ شَفَتَيْكَ؟»، قُلْتُ: أَذْكُرُ اللهَ يَا
رَسُولَ اللهِ، فَقَالَ: «أَلَا أُخْبِرُكَ بِشَيْءٍ إِذَا قُلْتَهُ، ثُمَّ دَأَبْتَ
اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ لَمْ تَبْلُغْهُ؟» قُلْتُ: بَلَى، فَقَالَ: «تَقُولُ:
الْحَمْدُ لِلَّهِ عَدَدَ مَا أَحْصَى كِتَابُهُ، وَالْحَمْدُ لِلَّهِ عَدَدَ مَا
فِي كِتَابِهِ، وَالْحَمْدُ لِلَّهِ عَدَدَ مَا أَحْصَى خَلْقُهُ، وَالْحَمْدُ
لِلَّهِ عَلَى مَا فِي خَلْقِهِ، وَالْحَمْدُ لِلَّهِ مِلْءَ سَمَاوَاتِهِ
وَأَرْضِهِ، وَالْحَمْدُ لِلَّهِ عَدَدَ كُلِّ شَيْءٍ، وَالْحَمْدُ لِلَّهِ مِلْءَ
كُلِّ شَيْءٍ، وَتُسَبِّحُ مِثْلَ ذَلِكَ وَتُكَبِّرُ مِثْلَ ذَلِكَ».
الذكر المضاعف أعظم في الثناء على الله
قال ابن القيم:
تفضيل «سُبحان الله وبحمده عَدد خلقه، ورِضا نَفسه، وزِنة عَرشه، ومِداد كلماته»
على مُجرّد الذّكر «سبحان الله» أضعافًا مُضاعفة، فإنّ ما يَقوم بقلب الذّاكر حين
يقول: «سُبحان الله وبحمده عَدَد خلقه» من مَعرفته وتَنزيهه وتَعظيمه لله بهذا
القدر المذكور من العدَد، أعظم ممّا يقوم بقلب القائل: «سبحان الله» فقط، وهذا
يُسمّى الذّكر المضاعف، وهو أعظم ثناءً من الذّكر المُفرد؛ فلهذا كان أفضل منه،
وهذا إنما يَظهر بعدَ مَعرفة هذا الذّكر وفهمه.
فإن قَول
المسبّح: «سبحان الله وبحمده عَدد خَلْقه» تَضمّن إنشاءً وإخبارًا؛ إخبارًا عمّا
يَستحقّه الربّ من التسبيح عَدَد كلّ مَخلوق كان، وهو كائن، إلى ما لا نهاية له،
فتضمّن الإخبار عن تنزيهه وتعظيمه والثناء عليه هذا العدد العظيم، الذي لا يبلغه
العادّون، ولا يُحصيه المُحصون.
وتضمّن إنشاء
العبد لتسبيحٍ هذا شأنه، لا أنّ ما أتى به العبد من التسبيح هذا قدره وعدده، بل
أخبر أن ما يَستحقه الربّ سبحانه وتعالى من التسبيح، هو: تَسبيح يَبلغ هذا العدد
الذي لو كان في العدد ما يزيد لذكره، فإنّ تَجدّد المخلوقات لا يَنتهي عَداده، ولا
يُحصى لحاصر.
وكذلك قَوله: «ورِضا
نَفسه»؛ وهو يَتضمّن أمرين عظيمين؛ أحدهما: أن يكون المراد تَسبيحًا هو في العظَمة
والجلال مُساوٍ لرضا نَفسه، كما أنّه في الأول مخبر عن تسبيح مساوٍ لعدد خلقه، ولا
ريب أن رِضا نَفس الربّ أمر لا نِهاية له في العظمة والوَصف، والتسبيح ثناءٌ عليه
سبحانه يتضمن التعظيم والتنزيه.
فإذا كانت أوصاف
كماله ونُعوت جَلاله لا نِهاية لها ولا غاية، بل هي أعظم من ذلك وأجلّ، كان الثناء
عليه بها كذلك.
وقوله: «وزِنة
عَرشه» فيه إثبات العرش، وإضافته إلى الرب سبحانه وتعالى، وأنه أثقل المخلوقات على
الإطلاق، إذ لو كان شيءٌ أثقل منه لوُزن به التسبيح.
فالتضعيف الأول:
للعَدَد والكميّة.
والثاني: للصفة
والكيفية.
والثالث:
لِلْعِظم والثِّقَل وكِبَر المقدار.
وقوله: «ومِدَاد
كلماته» هذا يَعمّ الأقسام الثلاثة ويَشملها، فإنّ مِدَاد كلماته سبحانه وتعالى لا
نهاية لقدره، ولا لصفته، ولا لعدده، قال تعالى: (قُلْ لَوْ كَانَ الْبَحْرُ مِدَادًا لِكَلِمَاتِ رَبِّي
لَنَفِدَ الْبَحْرُ قَبْلَ أَنْ تَنْفَدَ كَلِمَاتُ رَبِّي وَلَوْ جِئْنَا
بِمِثْلِهِ مَدَدًا) (الكهف: 109)، والمقصود أنّ في هذا التسبيح من صفات
الكمال، ونُعوت الجلال ما يُوجب أن يكون أفضل من غيره، وأنه لو وَزن غيره لوَزن
به، وزاد عليه(2).
جزاء الذكر المضاعف لا يعلمه إلا الله
روى ابن ماجه في
سننه عن عَبْداللَّهِ بْن عُمَرَ، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ حَدَّثَهُمْ: «أَنَّ عَبْدًا مِنْ عِبَادِ اللَّهِ قَالَ: يَا رَبِّ
لَكَ الْحَمْدُ كَمَا يَنْبَغِي لِجَلَالِ وَجْهِكَ وَلِعَظِيمِ سُلْطَانِكَ، فَعَضَّلَتْ
(اشتدت وصعبت) بِالْمَلَكَيْنِ، فَلَمْ يَدْرِيَا كَيْفَ يَكْتُبَانِهَا،
فَصَعِدَا إِلَى السَّمَاءِ، وَقَالَا: يَا رَبَّنَا، إِنَّ عَبْدَكَ قَدْ قَالَ
مَقَالَةً لَا نَدْرِي كَيْفَ نَكْتُبُهَا، قَالَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ: وَهُوَ
أَعْلَمُ بِمَا قَالَ عَبْدُهُ: مَاذَا قَالَ عَبْدِي؟ قَالَا: يَا رَبِّ إِنَّهُ
قَالَ: يَا رَبِّ لَكَ الْحَمْدُ كَمَا يَنْبَغِي لِجَلَالِ وَجْهِكَ وَعَظِيمِ
سُلْطَانِكَ، فَقَالَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ لَهُمَا: اكْتُبَاهَا كَمَا قَالَ
عَبْدِي، حَتَّى يَلْقَانِي فَأَجْزِيَهُ بِهَا».
_________________
(1) مرقاة
المفاتيح شرح مشكاة المصابيح (4/ 1595).
(2) المنار
المنيف: ابن قيم الجوزية (1/ 17).