فطرة التدين من تحت الأنقاض.. مشاهد تاريخية من أهوال زلزال تركيا وسورية

سيف باكير

20 فبراير 2023

8

 

«اللهم لك الحمد والشكر».. كلمات لهج بها أب سوري بعد أيام من الاحتجاز مع ابنته تحت أنقاض زلزال سورية وتركيا المدمر، لم تكن سوى مشهد ضمن مسلسل مشاهد جرت بشكل متزامن، وعلى غير اتفاق جماعي، وقدمت نماذج فريدة لـ«تدين الفطرة» لدى جموع البسطاء في قلب واحدة من أشد المحن إيلاماً منذ عقود.

المحنة، رغم أهوالها، لم تجعل هؤلاء البسطاء ساخطين على قدر الله، بل شاكرين له قدره، فهو كله خير، مصداقاً لتوجيهه القرآني: (وَعَسَىٰ أَن تَكْرَهُوا شَيْئًا وَهُوَ خَيْرٌ لَّكُمْ ۖ وَعَسَىٰ أَن تُحِبُّوا شَيْئًا وَهُوَ شَرٌّ لَّكُمْ ۗ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنتُمْ لَا تَعْلَمُونَ) (البقرة: 216)، وهو ما تكرر في مشاهد أهوال ما تحت الأنقاض على نحو قدم تجسيداً مادياً لما يمكن أن تعنيه المقولة النبوية: «رب أشعث أغبر لو أقسم على الله لأبره».

فهذه سيدة تركية في قهرمان مرعش ترفض الخروج من تحت الأنقاض! يسألها المغيثون: لماذا؟ فتجيب: أعطني حجاباً أولاً، رافضة الخروج قبل إمدادها بغطاء تغطي به رأسها.      

يصيح عمال الإنقاذ: أعطونا حجاباً، ليسارع الناس حول الأنقاض لتوفير الحجاب.. تحصل عليه السيدة التركية، التي بدت في الخمسينيات من عمرها، وتقبله، ثم تخرج مع عمال الإنقاذ وهول المأساة على وجهها.. لكن الرضا بقضاء الله لم يفارق شفتيها.

وهذه طفلة من تحت أنقاض منزل في هاتاي التركية، يعثر عليها عمال الإنقاذ بالصدفة، حيث فوجئ الجميع بكونها ما زالت حية، رغم مرور أكثر من 3 أيام على الزلزال المدمر، ليردد حضور المشهد تكبيراً جماعياً فرحاً بإنقاذ الطفلة وشكراً لله على قضائه وقدره.

وهذا مسن سوري، احتجزته الأنقاض لساعات طويلة، ويكافح المغيثون لإخراجه، لكنه كان مهموماً بأمر آخر: الصلاة! ستفوتني الصلاة، أعطوني بعض الماء للوضوء.

تعجب عمال الإنقاذ من طلبه، وأكدوا له أنه «معذور» شرعاً، ويمكنه الصلاة بعد الخروج من تحت الأنقاض، أو التيمم، لكن إصراره على أداء الفريضة في وقتها ترك أثره الكبير في نفوس من أحاطوا المشهد. 

المشهد ذاته بتفاصيل مقاربه تكرر، لكن مع طفلة سورية تناجي الله بعد إخراجها من الأنقاض، قائلة: «يا ربي، من أمس لم أصلِّ.. بدي أصلي".

استعانت الطفلة بذكر الله والصلاة على النبي كي تتمكن من الصبر على أيام كاملة تحت الأنقاض، وهي التي لم تتجاوز العاشرة من عمرها، في مشهد أثار تأثراً كبيراً بين جموع من أحاطوا بها.

وهذا أب سوري فوجئ بانحشار ابنه بين الأنقاض، في دور علوي، بعدما تسبب الزلزال في انهيار جزئي بمنزلهم.

الابن يصرخ خوفاً بنداء: يا الله! والأب يتابع حالة ابنه العالق بين الأنقاض ويلقنه الشهادتين، قل: لا إله إلا الله محمد رسول الله، والابن يستجيب ويردد الشهادتين صارخاً محتسباً.

كلها مشاهد كشفت عن روح تدين الفطرة يسري في نفوس البسطاء، وعبرت عن تمسك الناس بدينهم رغم هول الفاجعة ومصابها الأليم.

تدين الناس ليس منمقاً ولا مزخرفاً، لكنه أصدق من كل كتابات المثقفين، ومن رحم آلام المفجوعين كانت هذه الروح تسري، ويعبرون عنها تلقائياً، ودون أي اتفاق مسبق.

المصاب لم يصب الناس بالسخط، «فالكل تعلق بالله الصغير والكبير.. ما بين تكبير وتشهد.. الكل تضرع لله، وظهر الإيمان على محيا الوجوه، والعالم كله يراقب بكل حرقة ويهلل ويكبر إذا خرج حيّ».. هكذا عبر المحامي الشرعي السعودي فهد الناصر، عبر «تويتر»، عن تأثره بـ«مدرسة» الزلزال، التي قدمها معلمون، ربما كان بعضهم لا يجيد القراءة أو الكتابة.

فيما عبر المصرفي المصري خالد محيي الدين عن الأثر الإيماني لمشاهد «تدين الفطرة»، بقوله: هنيئاً لمن كان الله تعالى ورسوله كل همه، في عز المحن والمصائب لا يفكر إلا بدينه وربه وسُنة رسوله، عليه الصلاة والسلام، ما أجمل الإيمان بالله تعالى!

وسلط الداعية المصري عمرو نور الدين الضوء على محنة منكوبي الشمال السوري تحديداً، التي تبدو مضاعفة، جراء مأساة الزلزال من جانب، ومأساة التهجير من جانب آخر.

نوه نور الدين بعراقيل السياسة الدولية وتحكماتها حتى في إغاثة المنكوبين، لكنه علق قائلاً: من المحن تأتي المنح، يا أهل الشام، وخاصة سورية، ما يحدث لكم من بلاء هو تمحيص من الله لكم ليخرج أطيب ما فيكم، وخذلان العالم لكم هو فقط خوف من قوتكم، فأنتم مارد الأمة العملاق وقلبها النابض، أنتم سادة الزمان، فالذهب لا يظهر لمعانه إلا بالنار.

أما الداعية الأردني إياد قنيبي فاعتبر مشاهد تدين الفطرة في سورية وتركيا درساً عظيماً محفوراً في الذاكرة، يحيي في قلوب المسلمين الفخر بإخوانهم في الدين، ويخرج من قلوبهم الفخر بغيرهم ممن كفروا بالله، ولو كانوا في أعلى مكانة دنيوية.

الفخر الحقيقي هو بنعمة الإيمان والصلة بالله حسبما قال قنيبي، مضيفاً: يا من كنت تنظر إلى العلماء الملحدين بتعظيم واحترام لأنهم وسيمون ولديهم ألقاب علمية، بينما تنظر لإخوانك المسلمين باحتقار، لأنهم فقراء بالية ثيابهم، قل لي: ألم تشتعل في قلبك المحبة للشيخ الذي تكاد تطبق الجدران على صدره وهو يطلب الوضوء للصلاة؟ للمرأة الكبيرة التي تطلب الحجاب قبل أن تخرج من تحت الأنقاض؟ للطفلة التي تئن من الألم وهي تقول: صار لي يوم كامل ما صليت؟ للأب الذي يحتضن ابنته بعد إخراجه من تحت الأنقاض حامداً الله رغم فقدانه باقي عائلته وماله ومنزله؟!

ويضيف الداعية الأردني: أما أنا فوالله إني لأحبهم وأفخر بهم وأسأل الله أن يجمعني بهم في الدنيا فاتحين وفي الجنة إخواناً على سرر متقابلين، إن لحظة من لحظات تعلقهم بالله لهي خير من أعمال من كفروا بالله كلهم.

وختم قنيبي تعليقه بالقول: أمة محمد، صلى الله عليه وسلم، خير الأمم مهما كان فيها من ضعف، وهي مليئة بالنماذج التي تبعث الفخر والاعتزاز، مصداقاً لقوله صلى الله عليه وسلم: «أمتي كالمطر، لا يُدرى أوله خير أم آخره».


الرئيسية

مرئيات

العدد

ملفات خاصة

مدونة