فقه الأولويات.. بين الحاجة للعبادة والحاجة للعمل

في عالم تتسم
أحداثه بالسرعة والتعقد وزحمة الأولويات، يقف المسلم في أحداث يومه وليلته حائراً
بين تلبية متطلبات دينه وعباداته، وتلبية متطلبات حياته اليومية التي تزداد صعوبة
يوماً بعد يوم، فتقع في رقبته العديد من المسؤوليات اليومية مثل توفير المأكل
والمشرب والتعليم والتربية، ثم هو يحتاج للارتقاء بروحه عن طريق أداء عباداته في
موعدها.
ومن هنا يبرز
علم فقه الأولويات، كعلم يصل لدرجة الضرورة الشرعية حتى يستطيع المسلم بين تلك
المهام المركبة أن يحقق التوازن المطلوب وتأدية ما عليه في كل وقت من طلب للرزق
حيناً، وعبادته لرب العالمين حينا آخر.
مفهوم
فقه الأولويات
فقه الأولويات
ليس علماً وليد اليوم، وإنما هو علم قديم يضع المسلم أمام أولوياته مفاضلاً بين
المهم والأكثر أهمية، فهو ليس كما يحسبه البعض يفاضل بين الحرام والحلال، أو بين
المهم وعديم الأهمية.
فهو كما عرفه
العلماء: «وضع كل شيء في مرتبته بالعدل من الأحكام والقيم والأعمال، ثم يقدَّم
الأولى فالأولى بناءً على معايير شرعية صحيحة يهدي إليها نور الوحي وسلامة العقل،
فلا يقدم غير المهمِّ على المهم، ولا المهم على الأهم، ولا المرجوح على الراجح، بل
يقدَّم ما حقه التقديم ويؤخر ما حقه التأخير، ولا يكبر الصغير ولا يصغر الكبير، بل
يوضع كل شيء في موضعه بالقسطاس المستقيم، فالقيم والأحكام والأعمال والتكاليف
متفاوتة في نظر الشرع تفاوتًا بليغًا، وليست كلها في مرتبة واحدة، فمنها الكبير
ومنها الصغير، ومنها الأصلي ومنها الفرعي، ومنها الأركان ومنها المكملات، وفيها
الأعلى والأدنى، والفاضل والمفضول»(1).
بينما يعرف
الشيخ يوسف القرضاوي فقه الأولويات بأنه: «الفقه الذي يميز بين الأهم والمهم،
والأولى والمفضول، والضروري والحاجي، والفرض والسنة، والمصلحة الكبرى والصغرى»(2)،
وهو علم يحتاج إليه كل مسلم في حياته اليومية كي يستطيع إدارة يومه بشكل صحيح.
فقه
الأولويات في التشريع الإسلامي
وتنظيم حياة
المسلم من مقاصد الشريعة الإسلامية لاستثمار وقته حين تكثر عليه التكاليف وتتشابك
المسؤوليات وتتداخل المهام فلا يكاد يجد وقتاً لأي منها، ولذلك فقد ورد في كتاب
الله وسُنة نبيه ما يؤكد الحاجة لهذا العلم.
فمن القرآن نجد
المفاضلة بين الأعمال الصالحة في مثل قوله تعالى: (أَجَعَلْتُمْ سِقَايَةَ الْحَاجِّ وَعِمَارَةَ
الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ كَمَنْ آَمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآَخِرِ وَجَاهَدَ
فِي سَبِيلِ اللَّهِ لَا يَسْتَوُونَ عِنْدَ اللَّهِ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي
الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ) (التوبة: 19)، فالأعمال لا تستوي عند الله، رغم
أنها في أصلها أعمال صالحة، لكن عبادة الوقت هي التي تنال الدرجات العلا، فوقت
الصلاة لا يصح أن يشغل المسلم نفسه بعيادة مريض مثلاً؛ لأن واجب الوقت أن يلبي
نداء الصلاة، ووقت أداء عمله وخدمة الناس، لا يصح أن يشغل نفسه بصلاة النافلة، بل
عليه أداء واجب الوقت من السعي على خدمة الناس.
وعن أبي هريرة أن
رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «سبق درهم مائة ألف درهم»، قالوا: وكيف؟ قال: «كان
لرجل درهمان تصدق بأحدهما، وانطلق رجل إلى عُرض ماله فأخذ منه مائة ألف درهم فتصدق
بها» (أخرجه النسائي)، فهو نفس العمل وبنفس القدر، لكن الأجر مختلف.
ومن أمثلة تضارب
الأولويات عند بعض المسلمين أن ينشغل المسلم بالفروع دون الأصول، وبقضايا لا تهم
المسلمين عن قضايا مصيرية يتوقف عليها مستقبل الأمة، منهم من يهتم بالشكليات
كفرضية اللحية ولا يهتم بمصير المسجد الأقصى، يهتم بالنافلة أكثر من الفريضة.
وفي الحديث ما
يوضح تلك الإشكالية، فعن أبي هريرة، قال: قال رجلٌ: يا رسول الله، إن فلانة يُذكر
من كثرة صلاتها، وصيامها، وصدقتها، غير أنها تُؤذي جيرانها بلسانها، قال: «هي في
النار»، قال: يا رسول الله، فإن فلانة يُذكر من قلة صيامها، وصدقتها، وصلاتها،
وإنها تصدق بالأثوار من الأقط، ولا تُؤذي جيرانها بلسانها، قال: «هي في الجنة»
(أخرجه أحمد).
نظرة
الإسلام للعمل والعبادة
العبادة في
الإسلام لا تعني المكوث في المسجد، أو قضاء النهار صائماً والليل قائماً، ولا تعني
تلك الركعات المعدودة في اليوم والليلة، وإنما تشمل العبادة في الإسلام مظاهر
عديدة تمتد لكافة مناحي الحياة، ومنها تحويل العادات إلى عبادات لتستوعب حياة
الإنسان كاملة كما قال تعالى: (وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنسَ إِلَّا
لِيَعْبُدُونِ) (الذاريات 56).
يقول ابن تيمية:
«العبادة اسم جامع لكل ما يحبه الله ويرضاه من الأقوال والأعمال الظاهرة والباطنة»(3)؛
وبهذا، فإن مفهوم العبادة يمتد للسعي على الرزق، والتوكل على الله عبادة، وكف
الأبناء والزوجة عن الحاجة عبادة، والسعي إلى العلم عبادة، وحفظ النفس والجسد
بتصحيح النية عبادة، فنظرة الإسلام إلى العمل لا تقتصر على أداء الفرائض، وإنما
تمتد للعمل الدنيوي نفسه بتوجيه النية كما يريدها الله عز وجل.
كيف
يرتب المسلم أولوياته؟
- عليه أن يجدد
نيته على مدار اليوم، حتى تتحول طقوس حياته جميعها إلى عبادة يؤجر عليها، فيثاب
على سعيه على رزقه، كما يثاب على صلاته، كما يثاب على بره بوالديه، كما يثاب على
صلته لأرحامه.
- العبادة على
وقتها؛ فالصلاة في المسجد بمجرد أن يسمع النداء، في الوقت الذي يحدده الله، لا
الوقت الذي يسمح به عمله، أن يكون في الزمان والمكان الذي يريده الله فيه كما قال
تعالى: (إِنَّ الصَّلاَةَ كَانَتْ عَلَى
الْمُؤْمِنِينَ كِتَاباً مَّوْقُوتاً) (النساء: 103)، وقياساً على الصلاة تكون بقية الأعمال، فحين يكون هناك
متخاصمان فالصلح بينهما أولى من زيارة قريب.
- التوازن في
أداء الأعمال والعبادات، فيقول النبي صلى الله عليه وسلم لعمرو بن العاص حين بالغ
في العبادة: «إن لبدنك عليك حقًا، وإن لأهلك عليك حقًا، وإن لزورك عليك حقًا،
فأعطِ كل ذي حق حقه» (رواه البخاري)، فلا يطغى جانب على جانب، فهناك حق النفس في
الراحة، وحق الأهل في الرعاية، فلا إفراط ولا تفريط، ولا طغيان لجانب على جانب
حياة
السلف خير تطبيق لفقه الأولويات
وقد كانت حياة
الصحابة خير نموذج يحتذى به في مسألة فقه الأولويات، حيث قلما نجد صحابياً بغير
عمل، بل بمجرد الهجرة والوصول للمدينة المنورة ذهب معظمهم للسوق ليتاجروا ويتكسبوا
قوتهم بأنفسهم رغم ترحيب الأنصار بهم وكفالتهم إياهم.
لكننا نجد مثل
أبي بكر الصديق رضي الله عنه وهو يكثر من قيام الليل، وفي ذات الوقت يتاجر
بالنهار، ونجد مثل عثمان بن عفان وهو ذو النورين ومن العشرة المبشرين بالجنة، نجده
من أغنى التجار وأكثرهم نشاطاً وأعلاهم صدقة وإنفاقاً، نموذج للمسلم الناجح في
كافة جوانب حياته، وغيرهم الكثير من الصحابة يمثلون النجاح منقطع النظير في تنظيم
حياتهم وتوازنها بين تعمير الدنيا والآخرة في ذات الوقت.
إن الوقت هو الحياة، واستثمار كل دقيقة فيه فيما يرضي الله ويرفع الدرجات ويقرب منه سبحانه وتعالى واجب المسلم في كل وقت، والمسلم ليس إنساناً فوضوياً أو كسولاً، وإنما هو الأولى بالنجاح والنظام والعمل الجاد والعلم والعبادة والسعي والهجرة والبحث في الأرض، فهو أولى الناس بالنجاح الذي يتعبد إلى الله بتفعيل مقوماته.
______________________
(1) فقه
الأولويات السياسية والاقتصادية، د. نهاد إسحاق (1/ 37).
(2) فقه
الأولويات للدكتور يوسف القرضاوي، ص 9.
(3) الفتاوى
الكبرى، ج 10، ص 149.