فقه الاستجابة في زمن التحوُّلات (1).. مدخل تأسيسي

د. بلال مطاوع

13 يوليو 2025

737

نحن نعيش في واقع ليس مليئًا بالأحداث فحسب، بل أحداثه متسارعة جدًّا، وهو من شواهد تقارب الزمان الذي تحدثَّت أحاديث النبي صلى الله عليه وسلم عن وقوعه في آخر الزمان: «لا تَقومُ السَّاعةُ حَتَّى يَتَقارَبَ الزَّمانُ» (صحيح البخاري)، هذا الواقع يَصْدُق فيه قول لينين: «هناك عقود لا يحدث فيها شيء، وهناك أسابيع تحدث فيها عقود».

في غضون 3 سنوات تقريبًا، انسحب «الناتو» بقيادة أمريكا من أفغانستان، وكانت «طوفان الأقصى»، وسقط نظام الأسد في سورية، وثلاثتها أحداث كبرى ومفصلية في مدة وجيزة.

وفي السياق ذاته، يعتبر د. وليد عبدالحي أن السمة العامة للتطورات التي حدثت منذ السابع من أكتوبر 2023م وما تبعه من ارتدادات، هي غلبة ما يُعرف في أدبيات الدراسات المستقبلية بمصطلح «البجعة السوداء»؛ أي الحدث النادر وغير المتوقع، فكل البجع أبيض، والمفاجأة أن تجد بجعة سوداء، وهذا المتغير قليل الاحتمال للغاية، لكنه عظيم التأثير في حال وقوعه (مقال: «كل البجع أسود»).

أيًّا كان موقفك من هذه الأحداث، فإن المؤكد أنها لا تفرض مجرد استحقاقات كبيرة، بل استحقاقات عاجلة، تستدعي استجابة سريعة تتناسب مع حجم التحولات وخطورة التحديات، وفي مثل هذه الأسابيع التي تحدث فيها عقود، يبرز السؤال الجوهري: ما الواجب علينا فعله؟

فيما يخص علماء الشريعة، يتحدث ابن القيم عن المطلوب من عالم الشريعة لإنتاج موقف يناسب الواقع ويواجه تحدياته، فيقول: «ولا يتمكَّن المفتي ولا الحاكم من الفتوى والحكم بالحقِّ إلا بنوعين من الفهم؛ أحدهما: فهمُ الواقع، والفقهُ فيه، واستنباطُ علمِ حقيقة ما وقع بالقرائن والأمارات والعلامات حتى يحيط به علمًا، والثاني: فهم الواجب في الواقع، وهو فهمُ حكمِ الله الذي حكَم به في كتابه أو على لسان رسوله في هذا الواقع، ثم يطبِّق أحدهما على الآخر» (إعلام الموقعين).

لا يقتصر كلام ابن القيم على علماء الشريعة فحسب، بل ينسحب على سائر الفاعلين في المجال العام -من نخب سياسية واجتماعية، وقيادات شبابية وحركات إصلاحية- ذلك أن أي عمل مثمر يقوم على هاتين الركيزتين؛ فقه الواقع، وفهم الواجب في هذا الواقع.

كما ينبِّه كلامه إلى أمرين مهمين:

الأول: سرعة استجابة من يتصدَّر للشأن العام -وفي مقدمتهم علماء الشريعة- للواقع الجديد؛ بيانًا وعملًا؛ فحديثه عن «فهم الواقع» و«فهم الواجب في هذا الواقع» يستلزم ألا يتأخر صاحب المسؤولية عن أداء دوره، بل يبادر إلى اتخاذ موقف يناسب المرحلة ويعالج تحدياتها، ليس فقط لأن من يأتي بالواجب بعد فوات أوانه، لا يُعدّ -في الحقيقة- آتيًا بالواجب عليه، بل لأنه في عصر تقارب الزمان وكثرة الأحداث وسرعتها لا يتمتع أيٌّ من الفاعلين في المجال العام بفائض الوقت الذي يسمح له من التعامل مع الواقع المتسارع بالوسائل التكتيكية التقليدية.

الثاني: يحدد كلام ابن القيم لكل واحد ثغره الدقيق الذي يجب ألا يبرحه إلى غيره، وإلا كان آتيًا بما ليس واجباً عليه أصالة، خاصة عند ازدحام الواجبات.

وبهذين الاعتبارين، لا يكون عالم الشريعة وغيره من المتصدرين للشأن العام مجرد تابعين للأحداث، بل ممسكين بشيء من زمامها ومساهمين في توجيه مسارها، فهم لا يكتفون بتشخيص الوقائع، بل يبادرون إلى صناعتها، بما يجعلهم فاعلين في توجيه الرأي العام لا متأخرين عنه، وعلى هذا، يمكن القول بأن سرعة الاستجابة للوقائع الجديدة تدخل في معاني قوله تعالى: (وَعَجِلْتُ إِلَيْكَ رَبِّ لِتَرْضَىٰ) (طه: 84).

يعد الحديث عن سرعة الاستجابة للأحداث المستجدة فرعًا عن نظرية الفراغ وملئه، التي تشير إلى أنه عندما يحدث فراغ في مجال معين سواء كان ماديًّا أو معنويًّا، فإن هذا الفراغ لا يبقى طويلًا، بل يتم ملؤه بسرعة وفق القوانين التي تحكم كل مجال.

في السياسة، لا تحتمل السلطة الفراغ، فعند سقوط نظام حكم أو تراجع نفوذ جهة حاكمة، تسارع قوى أخرى -محلية أو خارجية- إلى ملء الفراغ وفرض رؤيتها.

وفي الفقه الإسلامي، هناك منطقة الفراغ التشريعي، أو ما يسميها بعض الفقهاء «العفو»، وهي مساحة تركتها النصوص -قصدًا- لاجتهاد أولي الأمر والرأي وأهل الحل والعقد في الأمة، بما يحقق المصلحة العامة، ويرعى المقاصد الشرعية، من غير أن يقيدنا الشارع فيها بأمر أو نهي، ولعلماء الشريعة مسالك عديدة في كيفية ملء هذا الفراغ التشريعي، كالقياس والعرف والمصالح المرسلة ومقاصد الشريعة.

والمقصود أن الفراغ -في أي مجال- لا يدوم، ومن لم يبادر لملئه سبقَه غيره، فالأحداث لا تنتظر، والفرص لا تدوم، وغالبًا ما تفرض الجهة الأكثر تنظيمًا واستعدادًا نفسها بصرف النظر عن مدى أهليتها، وذلك بما تملكه من فهم للواقع وسرعة في الاستجابة لاستحقاقاته.

في المشهد السوري، كان الرئيس السوري أحمد الشرع يتحدث قبل عملية «ردع العدوان» عن حالة الفراغ التي ستنتج عن سقوط نظام الأسد الذي كان يرى أنه يسير في مسار السقوط، وبالتالي عن ضرورة وجود سلطة بديلة تتولى زمام السلطة؛ لئلا تدخل سورية في دوامة من الفوضى.

غداة سقوط نظام بشار الأسد، سارع جيش الاحتلال الصهيوني إلى استغلال حالة الفراغ الأمني الناجمة عن سقوط النظام السوري، بهدف فرض واقع جديد يضمن له التفوق العسكري والإستراتيجي على حدوده الشمالية، ويصعب تغييره مستقبلًا.

في خضم حرب الإبادة على قطاع غزة، عمل العدو على سحق كل مكون حكومي أو شعبي يسهم في ضبط الأمن، بالإضافة إلى التحريض على الفلتان الأمني، وإعادة هندسة المجتمع الغزي من خلال الحرب والتجويع والحصار، كان الهدف من هذه السياسات خلق حالة من الفراغ الأمني تتيح له ملء هذا الفراغ وفقًا لما يخدم مصالحه.

حاول العدو -وما يزال- ملء هذا الفراغ من خلال زعماء العشائر والمخاتير في استدعاء لنموذج روابط القرى الذي أنشأه الاحتلال في عام 1978م، والعصابات المنظمة التي تحاكي نموذج الصحوات في العراق، والمؤسسات الدولية المستجدة على العمل في قطاع غزة، والغيتوهات المعزولة (يسميها العدو «الفقاعات الإنسانية»)، وغيرها من الصيغ التي تضمن لصالحه اليوم التالي، وبين ما تبديه غزة من مقاومة لهذه المخططات، وتكيف العدو مع نتائج هذه المقاومة وإعادة تدوير أدواته، تستمر حرب الإبادة.

منذ الحملة الأمريكية على المنطقة بعد أحداث 11 سبتمبر وبعد موجة الثورات العربية والثورات المضادة، شهدت منطقتنا حالة من انهيار وتفكك السلطة المركزية في عدة بلاد، مثل: العراق وسورية وليبيا واليمن والسودان، ما ولَّد حالة من الفراغ، ملأها شركاء متشاكسون، كحركات المعارضة الوطنية، والجهاديين العابرين للحدود، والمنظمات الدولية العاملة تحت مظلة الإغاثة، وأمراء الحرب، وغيرهم، ولا يبدو أن الإقليم يسير إلى واقع مختلف بعد «طوفان الأقصى»؛ ما يعني أننا مقبلون على مزيد من حالات الفراغ، وبقدر ما تشكله حالات الفراغ من تحديات، فإنها تحمل في طيَّاتها فرصًا لمسارات التصحيح، لمن أحسن فهم الواقع، وملك من الإرادة ما يجعله فاعلًا لا تابعًا.

الرابط المختصر :

تابعنا

الرئيسية

مرئيات

العدد

ملفات خاصة

مدونة