فقه التعامل الدعوي والتربوي مع جيل «الأون لاين»

د. عادل هندي

31 يوليو 2025

228

إنّ من سُنة الله في الكون التغير والتجدد، يقول الله تعالى: (كُلَّ يَوْمٍ هُوَ فِي شَأْنٍ) (الرحمن: 29)، وفي زماننـا هذا نشهد ثورة معرفية واتصالية غير مسبوقة، أنتجت جيلاً جديدًا يختلف في تفكيره وسلوكه وتواصله مع الآخرين.

هو ذلكُم الجيل الذي يُعرف بـ«الجيل الرقمي»، أو جيل الإنترنت، وهو جيلٌ نشأَ في أحضانِ التّكنولوجيا، وتفتّح وعيه مع شبكات التواصل الاجتماعي، وتلقّى معرفته من الشاشات أكثر مما تلقّاها من المعلمين أو الأهل أو الكتب.

والدعوة إلى الله عز وجل لم تكن يومًا جامدةً أو راكدة، بل كانت عبر العصور متجددةً في أساليبها، مرنةً في أدواتها، ثابتةً في أصولها ومقاصدها، غير أن التغيّر السـريع في بنية المجتمعات المعاصرة، والتحولات الثقافية والتقنية الهائلة، أفرزت واقعًا دعويًّا جديدًا، يفرض تحديات غير مسبوقة أمام الداعية المعاصر.

ومن هنا يجب فهم أن الجيل الحالي لا يمكن التعامل معه بذات مفاتيح الأجيال الماضية، بل لا بد من قراءة الواقع، وفهم طبيعة التغيير، وبناء خطاب دعوي قادر على التأثير وسط هذه التحديات.

 

‏«إكس بوكس».. غزو رقمي يهدد عقول الشباب العربي |  Mugtama
‏«إكس بوكس».. غزو رقمي يهدد عقول الشباب العربي | Mugtama
استولت منصات الألعاب الإلكترونية، وعلى رأسها «إكس ‏بوكس» (‏Xbox‏) على مساحات شاسعة من عقول شبابنا ‏العربي
mugtama.com
×


وإذا كانت الدَّعوة إلى الله واجبة في كل زمان، فإنّ واجبها اليوم أعظم؛ لأن الوسائل تغيرت، والتحديات تعاظمت، والفرص كذلك تضاعفت. فهل نحن -كدعاة ومربين- نُحسن قراءة هذا الجيل؟ وهل نُحسن استخدام مفاتيحـه؟ وهل نملك أدوات مخاطبته بلغة يفهمها، وأسلوب يحترم وعيه، وقيمًا تُنير دربه؟

كلّ هذه التساؤلات تريد إجابات منطقية وواقعية، لذا كانت تلك الكلمات حول الجيل الرقمي المعاصر وكيفية التعامل معه دعويا وبالأحرى تربويًّا.

أولاً: من هو الجيل الرقمي؟ وما خصائصـه؟

الجيل الرقمي هو ذلك الجيل الذي وُلد أو نشأ بعد منتصف التسعينيات تقريبًا، في ظلّ انفجار رقميّ هائـل؛ حيث بدأ الإنترنت في الدخول إلى البيوت، وتأسَّست أُولى منصَّات التَّواصل الاجتماعي، وظهرت الهواتف الذكيَّة، وبدأت تقنيات الذكاء الاصطناعي تشق طريقها في الحياة اليومية.

هذا الجيل يتميز بخصائص نفسية وسلوكية، منها:

1- الإيقاع السريع: لا يحتمل الانتظار أو التأجيل، معتاد على السرعة في كلّ شيء.

2- الاعتماد على الصورة والفيديو أكثر من النصوص الطويلة، ومثل هذه الخاصية تحتّم على الدعاة التفكير كثيراً في أدوات العرض الدعوية.

3- الاتصال المستمر: حياته لا تنفصل عن الإنترنت؛ فهو دائم الحضور الرقمي، معلوماته سريعة ومتغيرة، حسب ظروف «السوشيال ميديا» وأحداثها.

4- الفضول والتساؤل: لا يكتفي بالمعلومة؛ بل يريد أن يتحقق ويفهم ويقارن، فيدفعه حب الاستطلاع والفضول إلى أن يبحث، ولذا إن لم يجد المعلومة الصحيحة، والصحيّة، لا شك أن سيُصاب بلوثات الإنترنت المختلفة، التي يطول معها العلاج بعد ذلك.

5- القدرة على التعدد والتركيز المتوزع: فتراه يفتح عدة تطبيقات، ويتحدث مع أكثر من طرف، ويستهلك محتوى متنوعًا في الوقت نفسه.

6- العمل الجماعي الرقمي: يحبّ الشَّـراكة الرقمية، ويكوّن مجتمعات رقمية تشاركية، وهي في حد ذاتها إيجابية وسلبيّة، القصة في كيفية التطويع والتوظيف!

7- التقدير للاستقلالية: لا يحب التوجيه المباشر أو السيطرة؛ بل يفضل أن يُحترم عقله، وهذا أمر لا يُنكَر -بطبيعة الحال- في الطبيعة الإنسانية، كما أعلنت الدراسات والتصنيفات المتخصصة في طبيعة الاحتياجات البشرية -كما عند ماسلو- التي منها: الحاجة إلى تقدير الذات، والداعية والمربي العاقل هو من يلحظ ذلك، ويتعامل من هذا المنطلق.

8- التفاعل العاطفي مع الشخصيات المؤثرة رقميًّا؛ وتعود هذه الخاصية لعدم الاستقرار الانفعالي والعاطفي لهذا الجيل في هذه الفترة الزمنية. 

9- التمرد على التقليدية: يُشكِّك في القديم، ويبحث عن التجديد دائمًا، ولذا لا يصح معه إلا الدعاة المتجددون، أصحاب الوسائل الحديثة، والأسلوب الجديد في الكلمات والتعبيرات والوسائل المتطورة.

10- الوحدة النفسية رغم التواصل الدائم: عجيب يعيشه هذا الجيل، فهو أكثر تواصلاً عبر الإنترنت، لكنه أكثر وحدة في الحقيقة.


قطار الذكاء الاصطناعي.. كيف نعد الجيل الجديد؟ |  Mugtama
قطار الذكاء الاصطناعي.. كيف نعد الجيل الجديد؟ | Mugtama
هل جلست مع ابنك لاستذكار دروسه، ثم فوجئت ب...
mugtama.com
×


ثانيًا: تحديات في الطريق:

ينبغي إدراك أن الدعوة إلى الله لهذا الجيـل ليست كما كانت في الأجيال السابقة، لا في أسلوب الخطاب، ولا في طبيعة الوسائل، ولا في بنية الرسائل الدعوية، ولعلَّ أبرز التحديات:

1- تراجع سلطة المرجعيات التقليدية (الأسرة، المسجد، الكِتاب) ففي السابق، كانت الأسرة مصدر التربية والتوجيه، وكان المسجد مركزًا للتلقي والتعليم، والكتاب مصدرًا موثوقًا للمعرفة.

أما اليوم، فقد ضعف حضور هذه المرجعيات في حياة كثير من الشباب؛ الوالد لم يعد هو النموذج الأعلى دائمًا، ودور المسجد تقلّص لدى بعض الفئات، بسبب الفجوة بين لغة الخطاب وبين احتياجات الناس، كما أن الكتاب لم يعد المصدر الأول للمعرفة، بل بات يُزاحَم بالمعلومة السـريعة والمختصـرة عبر الشبكات.

ومن هنا، فَقَدَ الشباب الثقة بالمصادر الموثوقة، ويلجؤون لمصادر مشكوك في مرجعيتها؛ ما يؤدي إلى اضطراب في الفهم الديني، وسهولة الوقوع فريسة للشبهات.

وعلى هذا، فإنه يجب على الدعاة والمربين تجديد العلاقة مع هذه المرجعيات وتقديمها بصورة ملهمة وواقعية، وإعادة بناء الثقة في العلماء والوالدين والمؤسسات الدعوية، فضلاً عن استخدام الوسائل الحديثة لإعادة تقديم القرآن والسُّنة والعلماء بثوب عصـري دون تفريط في الأصل.

2- غلبة الثَّقافة الرقميَّة على الثَّقافة الشرعيَّة أو المحلية: فالثقافة الرقمية اليوم هي المهيمنة؛ وسائل التواصل، ألعاب الإنترنت، فيديوهات البث المباشر، الترندات.. إلخ.

وهي ثقافة سريعة، استهلاكية، سطحية غالبًا، وتُشكِّل وعيًا وسلوكًا دون جهد تربوي يُذكر، وكانت النتيجة أن تراجعت قيمة الحفظ والتأمل، لصالح ثقافة السرعة والتلقي اللحظي، وأضحى الجيل الرقمي المعاصر مرتبطًا بمنصات التواصل أكثر من العلماء والكتب، وقد أضعف ذلك الارتباط بالهوية الدينية والوطنية لصالح الهوية الرقمية العابرة للحدود.

وعلى هذا، لزم الدعاة والمربين النزول إلى الساحة الرقمية بخطاب ينافس، لا يُهمَّش، وإنتاج محتوى شرعي جذّاب بلغة العصـر وأدواته (الفيديو القصير، الرسوم المتحركة، البودكاست..) إضافة إلى تفعيل قيم الدين من خلال المواقف اليومية التي يتفاعل معها الجيل عبر الإنترنت.

3- سهولة الوصول إلى المعلومة الخاطئة أو المشوشة: فإنترنت العصـر مفتوح للجميع؛ كل شخص يستطيع أن يقول ما يشاء ويُنشر على نطاق واسع، دون تحرٍّ للعلم أو المسند، فينتشـر الجهل المغلف بثوب المعرفة، وتكثر الفتاوى غير الموثوقة، وتضيع الحقيقة وسط فوضى الأقوال، وقد أنتج ذلك ضياع الناس بين الآراء، وعدم استطاعتهم التمييز بين الحق والباطل.

بالإضافة إلى تكوّن تصورات دينية خاطئة، تُبنى عليها مواقف وسلوكيات منحرفة، حتى شكك بعض الشباب في العلماء والمؤسسات، ويظنون أن كل الآراء سواسية.

ومن هنا تنشأ مسؤولية الدعاة والمربين في تصحيح المفاهيم بلغة واضحة ودلائل قوية، وتحصين الجيل بالمنهجية في الفهم، لا فقط بالمعلومة، مع بيان خطورة التلقي العشوائي للمعلومات، والترويج لمصادر موثوقة موثقة.

4- شيوع الشبهات عبر مقاطع قصيرة جذابة ومؤثرة: فالمحتوى القصير، مثل: «TikTok» و«Reels» و«Shorts» أصبح نافذة التأثير الكبرى، ويستغل بعض المشككين هذه الوسائل لبث شبهات حول الدين والنبي صلى الله عليه وسلم والقرآن والفقه بطريقة فنية جذابة، وخطورتها تتمثل في أن الشبهة تُلقى في دقيقة وتستقر في القلب، ويصعب نزعها بالخطاب التقليدي، وبعض الشباب يُشكك في دينه دون أن يملك أدوات الرد، ونتيجة ذلك غياب المحتوى الإسلامي المضاد بالشكل المؤثر يترك الساحة فارغة.

ومن ثم لزم الدعاة الدخول القوي في مجال صناعة المقاطع المؤثرة بجودة علمية وفنية عالية، فضلاً عن تدريب الدعاة على مهارات اختصار الفكرة والرد السـريع والتصميم البصري، وإنتاج محتوى وقائي يسبق الشبهة، لا أن ينتظر ظهورها.

5- نزعة التمرّد والتَّشكيك والبحث عن الجديد دائمًا: فالجيل الحالي -كما سبق- يميل للتساؤل، يحب الاستقلال، ويريد فهم السبب لا مجرد الامتثال. لا يثق بسهولة، ويبحث عن الفرق والتميُّز، وينفر من التكرار والنمطية، ويرفض بعض الشباب الطاعة إذا لم يفهم مغزاها، وينظرون أحيانًا للدين على أنه قديم أو تكرار، وللأسف الشديد يسقطون في فخ التقليد لثقافات أخرى بحثًا عن الجديد.

والداعية مطالبٌ بتقبُّل الأسئلة والشكوك وعدم إدانتها، بل احتواؤها بالحكمة، وتقديم الدين بوصفه وحيًا خالدًا يتجدد في فهمه وتطبيقهن مع إظهار عمق التجديد الإسلامي في كل عصر، وكيف أن الدين هو الأصل في الإبداع الحقيقي.

وهنا تبرز مسؤولية الداعية الواعي الذي يُـدرك أن الدعوة اليوم ليست فقط كلامًا يُقال، بل رسالة تُصاغ، وأثر يُنشر، وقيم تُغرس، من خلال أدوات العصر ولغته.


تابعنا

الرئيسية

مرئيات

العدد

ملفات خاصة

مدونة