فيلكا تستعيد مجدها.. الكويت تحيي كنوز 7 آلاف عام
في قلب مركز
كاظمة الثقافي بمنطقة الجهراء، وقف مسؤولو المجلس الوطني للثقافة والفنون والآداب
في الكويت يستمعون بإمعان إلى تقرير البعثة البولندية القادمة من جامعة وارسو، التي
أنهت 5 أسابيع من العمل المضني في التنقيب عن أسرار ضاربة في عمق الزمن، مطمورة
تحت رمال الشمال الكويتي.
وبين جنبات
القاعة تداخل التاريخ بالحاضر، وانعقدت الأذهان على ما خلفته العصور من بصمات
إنسانية نادرة، سرعان ما انتقل الوفد لمشاهدتها على أرض الواقع.
اكتشافات تروي الحكاية الأولى للإنسان في شبه الجزيرة العربية
أسفرت البعثة
البولندية عن اكتشاف أكثر من 20 فرناً يعود عمرها إلى نحو 7700 عام، إضافة إلى
نموذج مركّب سفينة ومجسمات وبقايا شعير عمرها 7500 عام، إلى جانب أوانٍ خزفية في
موقع «بحرة1» بمنطقة الصبية، الذي يُعد -بحسب الباحثين- أقدم وأوسع مستوطنة بشرية
دائمة أو شبه دائمة في شبه الجزيرة العربية.
تشكّل هذه
البعثة واحدة من 9 بعثات أثرية تزور الكويت سنوياً، في رحلة بحث شغوفة عن جذور
الإنسان في هذه الأرض، في مواقع تمتد من كاظمة إلى الصبية، مروراً بجوهرة التاريخ
الكويتي؛ جزيرة فيلكا.
جزيرة فيلكا.. التاريخ الذي لم يغِب
تُعد فيلكا،
الواقعة في الركن الشمالي الغربي للخليج، أيقونة حضارية فريدة تجمعت فيها آثار 5
حضارات متعاقبة، لتتحول إلى ما يشبه «كبسولة زمنية» تُجسّد حركة الإنسان عبر آلاف
السنين.
كانت الجزيرة
جسراً بحرياً بين حضارات بلاد ما بين النهرين والمراكز التجارية على ساحل الخليج
العربي، وشهدت نشاطاً دينياً وتجارياً جعلها من أهم نقاط الارتكاز في المنطقة،
اسمها المشتق من اللفظ الإغريقي فيلاكيو؛ وتعني نقطة التمركز، يختصر وظيفتها
التاريخية بدقة.
وعلى أرضها، ما تزال
القلعة الهلنستية، والتماثيل، والخرز، والفخار، والعملات القديمة، شواهد ناطقة على
غنى الحضارة التي وُلدت هناك قبل آلاف السنين.
تحوّل إستراتيجي.. من بطن الأرض إلى صناعة السياحة
كشف محمد بن
رضا، الأمين العام المساعد لقطاع الآثار والمتاحف بالتكليف، عن خطة حكومية لتحويل
بعض المواقع الأثرية -وعلى رأسها فيلكا- إلى وجهات سياحية عالمية، ويأتي ذلك بعد
توقيع اتفاق عام 2024م مع «الصندوق الدولي للمعالم»، لإعداد ملف إدراج الجزيرة ضمن
قائمة التراث العالمي لـ«يونسكو».
وقال بن رضا: إذا
كانت الكويت تمتلك كنزاً نفطياً في باطن الأرض، فإن فيلكا تمتلك كنزاً حضارياً
فوقها، لا يقل قيمة عن أي مورد اقتصادي آخر.
وتعمل الكويت
اليوم على تمهيد البنية التحتية للجزيرة؛ من طرق جديدة، ومرافق سياحية، ومطاعم، وتدريب
للمرشدين، وإزالة التعديات؛ لتهيئة بيئة جاذبة للسياحة الثقافية.
رؤية الخبراء.. من التراث إلى الاقتصاد الإبداعي
يدعو د. حسن
أشكناني، أستاذ الأنثروبولوجيا والآثار، إلى تحويل المكتشفات الأثرية من مجرد مادة
أكاديمية إلى اقتصاد إبداعي يعزز التنويع الاقتصادي، عبر متاحف حديثة، ومراكز
زوار، وتوظيف البعد الثقافي في المنتج السياحي.
ويوضح أشكناني
أن عشرات المواقع الأثرية في فيلكا وكاظمة والصبية تمتلك مقومات التحول إلى معالم
سياحية كبرى، آملاً أن تتجسد رؤية الدولة في هذا القطاع قبل عام 2035م.
تحديات عملية أمام الحلم
ورغم الثراء
التاريخي، تواجه المواقع الأثرية الكويتية تحديات بنيوية، فهي في مناطق نائية
تفتقر إلى وسائل النقل والمرافق الأساسية؛ ما يجعل زيارتها مقتصرة على المختصين،
وتؤكد بثينة العصفور، مؤسسة شركة «بر وبحر»، أن الأمر يتطلب رؤية دولة، وتكاملاً
بين القطاعين العام والخاص.
أما الخبير
الاقتصادي محمد رمضان، فيرى أن الآثار وحدها غير كافية لخلق قطاع سياحي راسخ،
مشيراً إلى ضرورة بناء منظومة شاملة تشمل الفنادق والفعاليات والأنشطة المتنوعة،
بما يجعل الكويت وجهة ثقافية متكاملة وليست محطة عابرة.
فيلكا.. نحو استعادة الفرصة الضائعة
تستعد الكويت
اليوم لإحياء الجزيرة التي هُجّر أهلها إبّان الغزو العراقي عام 1990م، عبر مشروع
ضخم يشمل تطوير المرفأ، وإقامة منتجعات بحرية حديثة، وتوسعة البنى التحتية، ووضع
ضوابط استثمارية جديدة تشجع القطاع الخاص وتعيد الحياة إلى الجزيرة.
ويتوقع مختصون،
مثل الكاتب فراس السالم، أن تستوعب الجزيرة مشاريع تصل إلى 3 مليارات دولار، وأن
تحوّلها إلى وجهة خليجية جذابة، تجمع بين التراث الطبيعي والعمارة الحديثة، بفضل
شواطئها العذراء وقربها من مدينة الكويت.
الكويت.. ذاكرة الحضارات ومستقبل السياحة الثقافية
بين رمال شمال
الكويت المدفونة بالآثار، وجزيرة فيلكا التي تربط الماضي بالحاضر، تقف البلاد على
أعتاب مرحلة جديدة، مرحلة تحوّل التراث من ذاكرة محفوظة في المتاحف إلى محرك ثقافي
واقتصادي يعزز الهوية الوطنية ويعيد للكويت مكانتها الحضارية في المنطقة.
إن ما تحتضنه
الكويت من شواهد إنسانية عمرها آلاف السنين، ليس مجرد تاريخ يُروى، بل فرصة لتأسيس
قطاع سياحي رائد، يضع الثقافة في قلب التنمية، ويُعيد صياغة العلاقة بين الماضي
والمستقبل.