في سبيل فلسطين قطعنا ربع محيط الأرض (1 - 2)
كنت أمشي في هذه
الذكريات في طريق واضح، فتشعّبَت أمامي المسالك وافترقَت (كما قلت من قبلُ) الطرق،
فمن أين أمشي الآن؟ أُتِمّ الكلام عن عملي في القضاء؟ أُكمِل الحديث عن فلسطين؟
أستمرّ في عرض نماذج عن أساليبي في كتاباتي؟ وهل أستطيع أن أعرض هذه النماذج كلها؟
اخترت مرة فقرات
ممّا كتبت في شبابي عن الحب من كتابي «صور وخواطر» وكتابي «قصص من التاريخ» وكتابي
«قصص من الحياة».. وثقوا أني قلت ولم أفعل، والشعراء يقولون ما لا يفعلون. وإن
وصفت جمال المرأة وفتونها وصفاً دقيقاً صادقاً، ولكن ما قارفت لذة منه بالحرام ولا
قاربتها. فسمعَت طرفاً منه زوجتي وأنا أُمليه في الهاتف على الأخ الكريم طاهر أبي
بكر ناموس «الشرق الأوسط» (أي سكرتيرها)، وهو جزاه الله خيراً يسجّلها ويطبعها،
وجزى خيراً ولدي الأستاذ عادل صلاحي الذي يصحّحها، وجزى قبل ذلك الناشرَين
الكريمَين الأخوين الأستاذين هشاماً، ومحمداً، صاحبَي الجريدة وصبرهما عليّ وعلى
طول ذكرياتي.
فأنكرَت عليّ ما
سمعت وقالت: ماذا يقول الناس عن شيخ يكتب في الحب؟ فتردّدت وأخّرت نشر ما اخترت.
وهتف بي أستاذ كبير ما أُحِبّ أن أصرّح باسمه واستحلفني أن لا أفعل، وطلب إليّ أن
أشرح قصّة الرحلة التي رحلناها من أجل فلسطين والتي أشرت إليها في الحلقة الماضية.
قطع التردّد وبداية الرحلة إلى فلسطين
فكان هذا
الأستاذ كجَهيزة التي زعموا أنها دخلت نادي قومها وهم يحاولون رأب الصدع بين
فرعَين منهم قتل رجلٌ من الفرع الأول رجلاً من الفرع الثاني، يريدون أن يقبل
أولياء القتيل الدية وهم يأبَون إلاّ القصاص، وكانت قد استحكمَت بينهم عقدة الخلاف
واشتدّ النزاع فقالت لهم: إن ولد المقتول قد انتقم لأبيه من القاتل. فقالوا:
«قطعَتْ جهيزةُ قولَ كل خطيب»، وسارت مثلاً باقياً إلى الآن.
قلت للأستاذ:
شكراً لك، لقد أرحتني من هذا التردّد وأوضحت لي طريقي، ولكن الرحلة كانت سنة 1954م
وأنا لا أزال في ذكريات سنة 1945م. فقال: ومن طالبك بالسير في ذكرياتك مع السنين؟
إن القُرّاء يريدون الخبر سالماً كاملاً ولو خَفِيَ تاريخه، ولا يريدون أن تُقطَع
أوصاله وتُفرّق أعضاؤه ليسلم له تاريخ وقوعه.
قلت: هل تعرف
حكاية بنت السلطان التي كانت تحكيها لنا الجدّات ونحن في الفراش في ليالي الشتاء
الطوال لننام عليها؟ سألخّصها للقُرّاء، ولكن لا ليناموا بل ليبقوا مستيقظين، فإني
جاعلها فاتحة
حلقة واسعة جداً من حلقات هذه الذكريات التي طالت جداً؛ بداية قصّة طويلة هي قصّة
رحلة المشرق التي رحلناها من أجل فلسطين.
كان لبنت
السلطان عقد من نفيس الجواهر وغالي اللآلئ، ولكن ميزته فوق نفاسة جوهره وغلاء
لآلئه رَصُّه العجيب، فهو من عشرين لوناً ولكن صانعه جعلها تأتلف وتختلف وتتقارب
وتتباعد، حتى جاء منها صورة تُبهِر البصر وتستهوي القلب. فانقطع خيط العقد (أي
نظامه) وتبعثرَت حبّاته، فأمضت بقيّة عمرها تبحث عنها وتحاول جمعها وما وصلت إلى
الأقلّ منها، وما وصلت إليه لم تستطع أن تعيد صَفّه كما كان.
لقد انقطع الآن
-يا أيها القُرّاء- خيط ذكرياتي ولم أعُد أقدر أن أرتّبها على السنين، لقد ضاع
التاريخ وتداخلَت الأحداث. فماذا أصنع؟ قلت ذلك للأستاذ الذي اقترح عليّ أن أكتب
قصّة الرحلة فقال: إن ذهبَت صورة العقد وتبعثرَت حبّاته فاجعل ما وجدته منها
عقوداً صغيرة وارصف في كلّ واحدة منها ما تجد من حبّات العقد الكبير، ثم إذا فرغتَ
منها أَعدتَ ترتيبها ونسّقته.
أي أن تنشر
الذكريات الآن كما تجيء في ذهنك، ثم إن طبعتها الطبعة الثانية أعدتَ ترتيبها. كما
فعل صديقك الكبير خير الدين الزركلي في كتابه «شبه الجزيرة في عهد الملك عبد
العزيز»؛ لقد جعله متداخل الأخبار مهوَّش الترتيب، ثم نظر فيه فجمع ما هو من أخبار
الملك نفسه في كتاب سَمّاه «الوجيز في سيرة الملك عبد العزيز». وأنت إن مدّ الله
لك في العمر فعلتَ مثله، وإلاّ فإن
لك من إخوتك
العلماء وبناتك المتعلّمات وأحفادك وحفيداتك، الطبيب منهم والمهندس، كان لك منهم
مَن يعيد ترتيب الذكريات وكتابتها(1)، المهمّ أن تدوّن ما بقي في ذهنك
قبل أن تنساه.
سفرة المشرق.. من القدس إلى أقاصي آسيا
كانت هذه الرحلة
سفرة عجيبة، مشينا فيها من حيث مشى ابن بطّوطة وبلغنا من الجنوب الشرقي من آسيا ما
لم يبلغ. وكان كلّما نزل بلداً ولي قضاءها وتزوّج منها وكان له من زوجاته أولاد،
ثم ترك الزوجة والولد وذهب. ونحن ما قضينا بين الناس في محكمة ولا قضينا على
أنفسنا بزواج! وكان ابن بطّوطة يجد من يمشي معه لا يفارقه يترجم عنه، ونحن كنّا
نلقى المستقبِلين في كل بلد ندخله، ثم يدَعوننا أو نؤثر أن يدَعونا جلّ وقتنا
وحدنا.
رحلنا من القدس
إلى عمّان إلى بغداد إلى كراتشي إلى آخر باكستان الشرقية، زرنا الهند ورأينا من
بلادها دهلي (لا دلهي كما يقول الإنكليز) وبومباي (وهي من أجمل بلاد الدنيا)
ولكنَوْ (بلد الصديق الداعية الشيخ أبي الحسن النّدْوي) وكَلْكُتّا التي كان فيها
في تلك الأيام، قبل ثلاثين سنة، خمسة ملايين ونصف المليون.
وكان معنا الشيخ
محمد محمود الصواف، هو يدبّر أمرنا، يزيح عِلّتنا، يكفينا مؤونة الحِلّ والترحال،
يهيّئ لنا كل شيء. فلما رجع مضطراً من كراتشي إلى بغداد بقيت أنا والشيخ أمجد رحمة
الله عليه وحدنا. فتصوّروا اثنين كان أمهرَهما وأخبرَهما بشؤون الحياة أنا الذي لا
خبرة لي فيها ولا أملك من المهارة شيئاً.
قلت: إن الصواف
كان ثالثنا في العدد ولكنه كان أوّلنا في العمل، فهو المحرّك لهذا المؤتمر الذي لم
أحضر مؤتمراً غيره في عمري؛ هو الذي أعدّ له وله -بعد الله- أكبر الفضل فيه. وهو
الرجل الاجتماعي الذي يسمّي كل من يلقاه باسمه ويسائله عن خبره وخبر أهله وأصحابه،
والشيخ أمجد كان ينسى من لقيه بالأمس! ولقد دوّنت بعض ما رأيت من أخباره العجيبة
بإذنه وبموافقته، فلما جئت أكتب الآن هذه الذكريات وجدت أني صرت مثله، وصحّ فيّ
أنا ما رويته عنه هو!
وكان أشقّ ما
مرّ علينا أنا والشيخ أمجد بعد رجوع الصواف جهلنا لسان الإنكليز. ولغةُ التخاطب
حيثما زرنا هي الإنكليزية، وهي لغة عرجاء مقطوعة النسب، تأتي في الترتيب والمنزلة
خامسة بين لغات الأمم، ليس فيها قواعد مُحكَمة ولا ضوابط مطّردة، ليست مثل العربية
في شرَف نسبها ومتانة سببها (السبب: الحبل) وثبات أصولها وضبط موازينها وحُسن
اشتقاقها. العربية هي اللغة الأولى التي لم يعرف تاريخ اللغات مولدها لأن مولدها
أقدم من مولد التاريخ، ولم يدرك طفولتها لأنه ما رآها إلاّ شابّة مكتملة الشباب.
هي في الدرجة
الأولى، أما الدرجة الثانية والثالثة فإنها شاغرة ما احتلّتها لغة من اللغات. وفي
الدرجة الرابعة الفرنسية والألمانية معاً. ولكن الإنكليز بجدّهم ونشاطهم وسعة
حيلتهم،
وأنه مرّ عليهم
يوم كانوا يملكون فيه خُمس الأرض ويحكمون بقاعاً لا تغيب الشمس عنها لأنها إن غابت
عن مغربها بدت في مشرقها، الإنكليز فرضوا لغتهم على الناس على ما فيها من عِوَج
وضعف وخلل، ونحن أضعنا بكسلنا وخمولنا لغتنا. ولولا أنها قائمة بكتاب الله واللهُ
تعهّد بحفظ كتابه، وما تعهّد الله بحفظه لا يقدر أحد على المسّ به، لولا ذلك لزالت
ونُسيَت.
قلنا لهم: كيف
نمشي وما نعرف من الإنكليزية شيئاً؟ كيف نخاطب الناس؟ قالوا: ندلّكم على كلمة
سحرية تفتح لكم كل مغلَق وتيسّر كلّ عسير وتحلّ كل معقود، فمهما رأيتم من ذلك
فقولوها. قلنا: ما هي؟ قالوا: هي كلمة: «نو سبيكن». فكان الشيخ رحمه الله كلّما
واجهته عقبة أو وقعنا في ضيق قال: أفندي قُلها، قُلها.
وأذكر أن طائرة
«كي. إل. إم» الهولندية التي كانت تُربَط الساعة على مواعيد قيامها وهبوطها تأخرت
في سنغافورة ربع ساعة من أجلنا. جاؤونا ببيانات مطبوعة بالإنكليزية فقلنا: نو
سبيكن. قالوا: سبيكن فرنش؟ أي تعرفون الفرنسية، فقلت لنفسي: إنني درستها وتعلّمت
نحوها وصرفها وتمكنت من أدبها، وإن لم أُحسِنها نطقاً وبياناً، فلماذا لا أجرّب
اليوم حظّي منها؟ ورأيت المسألة قد هانت فقلت: نعم. فجاؤوني برجل ما أدري من أين
التقطوه، يتكلّم الفرنسية بفصاحة شاتوبريان وسرعة الممثل فرنانديل الذي كان يقلّده
إسماعيل ياسين، فلم أستطع أن أفهم منه شيئاً، فعدت إلى الكلمة السحرية فقلت: نو
سبيكن فرنش. قالوا ما معناه: سبيكن ماذا؟ قلت: العربية. فلم يجدوا في مطار
سنغافورة من يعرفها.
وأقول: إن ممّا
وقع لنا: لمّا وصلنا كراتشي في أوّل الرحلة وعرفوا أني عربي أتكلّم العربية
تباشروا ودعوا واحداً منهم، حسبته سيبويه آخَرَ ظهر من الأعاجم في آخر الزمان فكان
في العربية كسيبويه الإمام. فلما وصل سلّم وسلّمت وقال: عربي؟ قلت: نعم. فأقبل
عليّ عناقاً وتقبيلاً، وشممت منه رائحة هذا «التانبول» الذي يُقبِل عليه الهنود
فأزعجني من ذلك تقبيله وعناقه.
ثم بدأ الحوار.
فقال: ما اسمي؟ قلت: لا أدري ما اسمك. قال: لا لا، اسم أنت. فقلت: اسمي أنا علي.
قال: اسم أبي؟ قلت: عدنا إلى ما نجونا منه. ما الذي يدريني ما اسم أبيك؟ قال: أبي
أنت، أبي أنت. قلت: الله يخرب بيتك، أنا أبوك؟ قال: لا لا، اسم أبي، اسم أبي أنت.
ففهمت أنه يريد اسم أبي أنا ولكنه أخطأ في الضمائر ... وأكثر أخطائنا من علل
الضمائر!
اقرأ أيضاً:
____________________
(1) صنعت شيئاً
قريباً من ذلك، لكنني لا أدري أيجد طريقه إلى النشر ذات يوم أم هو يُطوى فلا
يُنشَر. انظر تعليقي في حاشيةٍ على الحلقة (189) في الجزء السابع من هذه الذكريات
(مجاهد).
المصدر: كتاب
«ذكريات».