قراءة في العلاقات الأسرية من خلال سورة يوسف «الفجوة بين الأجيال»
قراءة في العلاقات الأسرية من خلال سورة يوسف «الفجوة بين الأجيال»
سلطنا الحديث في الحلقة السابقة عن هم الأبناء الذي يعالجه الآباء سحابة أعمارهم
وكيف أنه لا يغادرهم هذا الهم حتى يغادروا هم الحياة بكل همومها.
وفي هذه الحلقة سنتناول قضية من أعقد القضايا التي تواجه الآباء والأبناء معا..
وهي قضية
معضلة عابرة للأزمان:
«الفجوة
بين الأجيال» والتي يشعر بها كل أب وأم وهما
يحاولان البحث عن السبل المثلى للتعامل مع أبنائهم، وهي قضية قديمة قدم الزمن
ذاته، حتى إنه ليؤثر عن الفيلسوف اليوناني سقراط قوله: لا تكرهوا أولادكم على
آثاركم، فإنهم مخلوقون لزمان غير زمانكم. (1).
ونحن نورد كلام سقراط للاستدلال على قدم المعضلة، وإن كنا لا نسلم له بما ذهب
إليه، إذ تقوم حضارتنا الإسلامية على توريث العقائد والفضائل والأخلاق من جيل إلى
جيل، حتى قال بعض أهل العلم:
«كَانَ
ابْنُ مَسْعُودٍ يُشَبَّهُ بِالنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي
هَدْيِهِ وَدَلِّهِ وَسَمْتِهِ، وَكَانَ عَلْقَمَةُ يُشْبِهُهُ، وَكَانَ
إِبْرَاهِيمُ يُشْبِهُ عَلْقَمَةَ، وَكَانَ مَنْصُورٌ يُشْبِهُ إِبْرَاهِيمَ،
وَكَانَ سُفْيَانُ يُشْبِهُ مَنْصُورًا، وَكَانَ وَكِيعٌ يُشْبِهُ سُفْيَانَ،
وَكَانَ أَحْمَدُ يُشْبِهُ وَكِيعًا، وَكَانَ أَبُو دَاوُدَ يُشْبِهُ أَحْمَدَ
بْنَ حَنْبَلٍ» (2).
عوامل وأسباب:
تقول الكاتبة م. روان الهواملة: "الفجوة بين
الأجيال"، والتي تعكس الفروقات في الآراء، والقِيَم، والاتِّجاهات،
والتصوُّرات العامّة عن الحياة، والعلاقات بين الجيلَين، وخاصَّةً بين الأجيال
الشابَّة وكبار السِّنّ؛ إذ إنّ كلّ جيل نشأ في ظروفٍ مُعيَّنة، وتأثَّر بتجاربه
وبالمجتمع الذي عاش فيه، وبالثقافة التي تميَّز بها زمنه. (3).
وفي ضوء هذه المقدمة يمكن تسليط الضوء على جوانب من هذه المعضلة الأسرية من خلال
العلاقة بين سيدنا يعقوب عليه السلام وبين أبنائه، والتي تجليها بعض الآيات من
سورة يوسف.. ولنبدأ بتسجيل هذا المشهد الذي يجسد هذه العلاقة بجلاء: (قَالُواْ يَا أَبَانَا مَا لَكَ لاَ
تَأْمَنَّا عَلَى يُوسُفَ وَإِنَّا لَهُ لَنَاصِحُونَ (11) أَرْسِلْهُ مَعَنَا
غَدًا يَرْتَعْ وَيَلْعَبْ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ) (يوسف)
والآيتان ترسمان صورة الخبث والحيلة التي يخبئها الأبناء تحت هذه الكلمات العاطفية
وتوضح أنهم يشعرون أن والدهم كبير السن طيب القلب لن يكتشف ما خلف الكلمات من مكر
وخديعة.. وهي صورة تتكرر كثيرا في تعامل الأبناء خاصة في مرحلة المراهقة والشباب
مع الآباء والأمهات.. فهم يستحضرون وهم يتعاملون مع آبائهم وأمهاتهم صورة الأب
والأم الكبير المسكين الذي يمكن أن تنطلي عليه الحيلة بسهولة.. ويقع الآباء غالبا
في مثل هذه «المقالب» التي يعدها الأبناء جيدا حتى يحصلوا على ما أرادوا الحصول
عليه..
وبمقابل موقف أبناء سيدنا يعقوب عليه السلام نرى كيف كان موقفه هو وهو يبوح لهم
بأخفى هواجس نفسه وتخوف قلبه على يوسف من إهمال إخوته.. والإهمال هو أكثر ما كان
يتوقع الأب الطيب حدوثه من الإخوة الكبار حيال أخيهم الصغير.. قال عليه
السلام: (إِنِّي
لَيَحْزُنُنِي أَن تَذْهَبُواْ بِهِ وَأَخَافُ أَن يَأْكُلَهُ الذِّئْبُ وَأَنتُمْ
عَنْهُ غَافِلُونَ) (يوسف:13).
ليست العامل الوحيد:
وبطبيعة الحال
فإننا لا نحمل العامل الزمني وحده مسؤولية ما يحدث من أخطاء سلوكية يقدم عليها
الأبناء وهم يَفترضون أن الآباء ليسوا على قدر من الذكاء بحيث يكتشفون حيلهم، مهما
كانت ساذجة، فلا شك أن هناك عوامل أخرى عديدة تقف خلف التصرفات الخاطئة التي قد
يقع فيها البعض حتى مع أقرانهم والذين يعلمون أنهم قد يفوقونهم ذكاء..
لكننا لا يمكن أن نغفل الإشارات التي وردت بالنص على أن أبناء يعقوب عليه السلام
كانوا يشعرون بهذه الفجوة الزمنية التي تجعلهم يتصورون أن أباهم عليه السلام واقع
تحت تأثيرها.. فهم يستخدمون أساليب تعبيرية ترسم تصورهم عن أبيهم الذي يرون أنه
متقادم عن الواقع غارق في الأحلام التي يظنون أن الزمن قد تجاوزها: (قَالُواْ تَاللَّه تَفْتَأُ
تَذْكُرُ يُوسُفَ حَتَّى تَكُونَ حَرَضًا أَوْ تَكُونَ مِنَ الْهَالِكِينَ)
(يوسف:85).
(قَالُواْ تَاللَّهِ إِنَّكَ لَفِي
ضَلالِكَ الْقَدِيمِ) (يوسف:95).
جسر الهوة:
والحقيقة أن هذه القضية معضلة تربوية جوهرية وليست هامشية، خاصة أنه لا يتم
التعبير عنها صراحة حتى تتم معالجتها حال ظهورها، وإنما يتم التصرف من خلال
مفاعليها النفسية القابعة في سراديب العقل الباطن والمؤثرات غير المنظورة التي
تحكم تصرفات الأبناء تجاه آبائهم أو حتى التلاميذ مع مدرسيهم.. وهي قضية مؤرقة
ينبغي على المؤسسات التربوية والمربين والآباء والأمهات إيلاؤها الكثير من
الاهتمام، حتى يجسروا الهوة بينهم وبين من يربون لتصل مياه المشاعر والأحاسيس
وتنتقل القيم العقدية والعبادية والتراث الأخلاقي بسلاسة ويسر من الأجيال السابقة
للأجيال اللاحقة، فيغمض المربون عيونهم وهي قريرة على مستقبل دينهم ومستقبل
أبنائهم وأوطانهم.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(1) انظر: «إغاثة اللهفان» (2/ 265)، «الملل والنحل» للشهرستاني (2/144).
(2) «البداية والنهاية» (14/ 618).
(3) موقع «الشارقة 24» على الإنترنت، من موضوع بعنوان: «صراع الأجيال.. فهم
الأسباب وفتح أبواب الحلول».