27 فبراير 2025

|

قراءة في تجارب التغيير عبر التاريخ

د. عمرو نافع

27 فبراير 2025

40

شكل مفهوم الاستبداد والطغيان السياسي محورًا أساسيًا في معركة التغيير عند معظم الحركات الاجتماعية والسياسية المعاصرة، بل وعبر التاريخ الإسلامي.

إن ذكريات الخلافة الرشدة وعودتها كانت ماثلة في أعين معظم أجيال المسلمين ويتمنون أن تعود كما بدأت، فكانت تقوم الحركات تلو الحركات ولكنها تفشل لأن الأمر كان أصعب مما يظن وتظن أجيال المسلمين وسنن الله في التغيير لا بد وأن تنفذ }إن الله لا يغير ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم{ (الرعد، آية 11)

الخروج على الحكام، كظاهرة تاريخية، ليس مفهومًا جديدًا؛ بل إنه كان حاضرًا في معظم الحضارات الإنسانية القديمة، ومن أبرز الأمثلة التاريخية على مقاومة الاستبداد: ثورات العالم القديم في روما القديمة واليونان خلال القرن الأول الميلادي، كانت هناك مقاومة للاستبداد الإمبراطوري وللأنظمة الدكتاتورية، وطرحت افكار مثل الجمهورية والمشاركة في السلطة كبديل للاستبداد، وقد اكتسبت طابع المقاومة الدينية للقوة الامبريالية.

زمن الخلافة

حين نتأمل التجربة الإسلامية سنرى كيف أن الذين اختاروا التغيير بالقوة ربما لم يكونوا ليفعلوا هذا لو أن الحكم الإسلامي استمر بنقاء وصفاء الخلافة الراشدة، وكل ما يقال عن الذين خرجوا على خلافة علي بن أبي طالب وعثمان بن عفان رضي الله عنهما، كان يرد عليه بإثمهم في خروجهم هذا، والأمر يختلف حين يخرج من هو مثل الحسين بن علي رضي الله على بيعة الصحابي معاوية بن أبي سفيان لابنه يزيد، والتي نجمت عنها معركة كربلاء، واستشهاد الحسين بن علي، وتعدّ إحدى أبرز الأمثلة على رفض الظلم والطغيان.

كان خروج الحسين واستشهاده رضي الله عنه لمنع توارث الخلافة وتركيز النظام السياسي في قبضة شخصٍ واحد وبشكلٍ مطلق مع غياب الضوابط التشريعية، وافتقاد آليات الرقابة والمحاسبة.

وخلال العصر العباسي والأموي، ظهرت حركات عديدة مثل حركات الخوارج والزيدية التي قاومت ما اعتبرته استبدادًا سياسيًا.

كثيرٌ من علماء المسلمين لم يكونوا راضين عن القصور في دمشق وبغداد وما حدث من فسادٍ كبير في الدول الإسلامية، وقدم بعضهم سندًا شرعيًا وأدبيًا لأمثال حركات الزبير وحركة النفس الزكيّة وأخيه إبراهيم، وأكثر العلماء كانوا يرون الخروج على الحكام فيه من المفاسد أكثر من ما فيه من المصالح لأنهم لا يملكون القوة الشعبية لتغيير الحكم بدون إراقة دماء وفتن ولذلك اتجهوا لعمل المعارضة والإصلاح من الداخل.

فهذا التابعي ربيعة الرأي شيخ الإمام مالك كان إذا انفرد بتلميذه بكى وتاثر لذهاب الخلافة الراشدة وكيف تفشى الظلم من الذين جاءوا بعدهم ويتمنى اليوم الذي يستطيع فيه الأمر بالمعروف والتهي عن المنكر، وهذا سعيد بن المسيب سيد التابعين كان يدعو في صلاته علي بني مروان، وكان بنو أمية يظنون أن طاعة الأئمة واجبة في كل شيئ وأن الإمام لا يؤاخذه الله بذنب!

وبعض العلماء كانوا يرون أن الحكام يحتاجون إلى النصيحة وأن ما فيهم من ظلمٍ وجور يمكن معالجته بالحوار والنصيحة، فالإمام ابن شهاب الزهري كان على صلةٍ قوية بالخلفاء الأمويين مع عدم المداهنة في الحق.

وكان الإمام سعيد بن المسيب ومحمد بن أبي ذئب والإمام مالك يمتازون بصلابتهم في الحق، وقد التقى أحدهم الخليفة المنصور في الحج وعندما طلب الخليفة إبداء الرأي في حكمه فقال: "ورب هذه البناية أي الكعبة إنك لظالم" كما روي الذهبي في تذكرة الحفاظ 1/191.

مدرسة الصبر

لقد خرج الكثير من الفقهاء يؤصلون لفكرة عدم الخروج على الحكام بل والصبر عليهم، كان على رأسهم الإمام أحمد بن حنبل وهو من أشهر أعلام مدرسة الصبر السياسي على الحكام المعتبرة شرعًا كما ذكر الإمام الماوردي في "الخلافة والملك" وأقره الإمام أبو زهرة فى سفره "تاريخ المذاهب"، كذلك الإمام الحسن البصري هو أحد أقطاب مدرسة الصبر أيضًا، فعندما سأله الحجاج: ما تقول في علي و عثمان، فقال: "لئن أموت مؤمنا مهزولًا، لأحب إلي من أن أموت منافقًا سمينًا".

بينما يرى اتجاهٌ فقهي مثل الذي قاده الإمام ابن حزم في "الملل والنحل" والإمام الجويني في "غياث الأمم في تياث الظلم" جواز الخروج على الظالم المبدّل بشرط تأكد التمكين، وفصّلوا في الشرط الأخير بدقة كبيرة. 

مقاومة الاستبداد

السياق الإسلامي قدّم قراءات متعددة لمسألة مقاومة الاستبداد. ويعتمد الموقف على النصوص الشرعية (القرآن والسنة) وتفسيرها في سياقات زمانية ومكانية مختلفة:

استدل الفقهاء على نصوص مثل حديث النبي صلى الله عليه وسلم: "تسمع وتطيع للأمير، وإن ضرب ظهرك وأخذ مالك، فاسمع وأطع" (رواه مسلم). هذا النص وغيره شكل قاعدة لمن دعا للصبر على الحاكم الظالم، باعتبار أن الفتنة الناتجة عن الخروج قد تكون أشد ضررًا من الصبر.

في المقابل، هناك نصوص تستدل بها بعض الفقهاء والجماعات، مثل حديث النبي: "أفضل الجهاد كلمة حق عند سلطان جائر" (رواه النسائي). ويعتبر هذا الحديث أساسًا شرعيًا للتصدي للظلم، ولذا اجتهد العلماء لتحديد شروط الخروج، ومن أبرزها: وجود الظلم الفاحش، وضمان عدم حدوث مفسدة أعظم، وتوافر قيادة رشيدة قادرة على إدارة الخروج.

ثلاثة دروس

فشلت تجارب الخروج على الحكام بسبب غياب رؤية واضحة للأهداف التي تسعى الحركات الثورية أو المعارضة لتحقيقها بعد إسقاط النظام، على سبيل المثال، حركة الخوارج في التاريخ الإسلامي المبكر قدمت نموذجًا لحركة خرجت ضد "الظلم"، لكنها عانت من انقسامات داخلية وغياب استراتيجية واضحة لإدارة المجتمع بعد تحقيق أهدافها.

في السياقات الحديثة، بعض الثورات العربية في عام 2011 شهدت صعوبة في ترجمة الاحتجاجات إلى بناء مؤسسات سياسية مستدامة بعد سقوط الأنظمة وعدم تحديد العلاقة مع الغرب والدوائر الإقليمية في الشرق الأوسط.

ثم نأتي للجانب الآخر وهو أن غياب القيادة الكفؤة والمنظمة يُعد من أكبر عوامل فشل حركات الخروج. تحتاج أي حركة معارضة إلى قيادة تمتلك الشرعية الشعبية، وتكون قادرة على اتخاذ قرارات استراتيجية رشيدة.

فعلي سبيل المثال في تجربة الثورة الفرنسية (1789)، غياب القيادة المستقرة أدى إلى سلسلة من التغيرات العنيفة بين الأنظمة، ما جعل الثورة تدخل في مراحل دموية، كفترة "الإرهاب" بقيادة روبسبير.

من ناحية إسلامية، نجد أن خروج عبد الله بن الزبير ضد الدولة الأموية في الحجاز كان مثالًا على حركة تمتعت بقيادة شرعية (حفيد الصحابي الزبير بن العوام)، لكن فشلها يعود إلى عجز القيادة عن حشد الدعم الكافي لمواجهة قوة الأمويين. فوجود قيادة مؤهلة وذات شرعية يعتبر ضرورة لإدارة حركة الخروج وتنظيم المجتمع أثناء وبعد التغيير.

الدرس الثالث والأخير هو الحذر من الفتنة والمفسدة الكبرى؛ فجميع أدبيات الفقه السياسي الإسلامي يشدد على ضرورة دراسة مآلات الخروج بعناية؛ لتجنب فتنة أو مفسدة أعظم من الظلم الذي يُراد القضاء عليه. الفوضى التي تنتج عن الخروج دراية كافية للمآلات قد تؤدي إلى انهيار المجتمعات.

معركة الجمل وصفين في التاريخ الإسلامي تظهر كيف أدت المواجهات السياسية المسلحة بين المسلمين أنفسهم إلى انقسام الأمة وتأثيرات طويلة المدى على الوحدة السياسية والدينية. وفي العصر الحديث، الثورات التي شهدتها بعض دول "الربيع العربي" تحولت في بعض الحالات إلى نزاعات مسلحة طويلة الأمد، مثل ليبيا وسوريا، حيث أدت الفوضى إلى انهيار الدولة واستمرار النزاعات لسنوات.

من يقود التغيير؟

إن مقاومة الاستبداد، رغم كونها حقًا مشروعًا في جميع الثقافات والأديان، هي عملية معقدة تحمل مخاطر كبيرة إذا لم تُدرس بعناية. فتجارب التاريخ تُعلمنا أن النجاح يتطلب رؤية واضحة، قيادة رشيدة، دعمًا شعبيًا واسعًا، واستعدادًا للتعامل مع التعقيدات السياسية والاجتماعية السريعة، بدون هذه العوامل، قد تتحول حركات الخروج إلى مصدر لفوضى وانقسامات تهدد استقرار المجتمعات أكثر مما تصلحها.

ففي حركة خروج عبد الرحمن بن الأشعث كان معه العالم المشهور عامر الشعبي وقد انتصر عليهم الحجاج بن يوسف الثقفي وعندما حضر إليه عامر الشعبي وسأله عن سبب خروجه عليه قال قولة معبرة للغاية: "لم نكن بررة أتقياء، ولا فجرة أقوياء" فعفا عنه الحجاج مباشرة.

إن النوايا الطيبة لا تكفي للحكم على النتائج؛ وقيادة الجيوش ومسرح السياسة من بيوت الحكم ليست نزهة؛ فقد كان النبي صلى الله عليه وسلم – وعلى قدره العظيم يدرس كيف ومتي يحارب ويتحرك بالجيش، بخلاف من عاش طوال حياته في بطون الكتب فيتخيل لبعض اللحظات أنه مثل أبو عبيدة بن الجراح ومعاذ بن جبل كما قال محمد سليمان العبدة في دراسته القيمة عن "حركة النفس الزكية دراسة وتقويم": "أن اكثر الناس اليوم لا يقرأون التاريخ فيقعون في نفس الأخطاء التي وقع فيها سلفهم". 



تابعنا

أحدث المقالات

الرئيسية

مرئيات

العدد

ملفات خاصة

مدونة