قصة الحسن البصري ووالي العراق .. لا طاعة لمخلوق في معصية الخالق
عندما قدم عمر بن هبيرة واليًا على العراق أرسل إلى الحسن البصري وإلى الشَّعْبِي فأمر لهما ببيت فكانا فيه شهرًا أو نحوه، ثم إنَّ الخصيَّ (الخادم) غدا عليهما ذات يوم فقال: إن الأمير داخل عليكما.
فدخل عمر بن هبيرة متوكئًا على عصا له فسلم ثم جلس معظِّمًا لهما، فقال: إن الأمير يزيد بن عبد الملك يكتب إليَّ كتبا أعرف أن في إنفاذها الهلكة، فإن أطعته عصيت الله، وإن عصيته أطعت الله! فما تريا لي في متابعتي إياه فرجًا؟
قال الحسن -موجها كلامه إلى الشَّعْبي: أجب الأمير.
فتكلم الشعبي فانحط في حبل ابن هبيرة (أي جاراه وأرضاه).
فقال ابن هبيرة للحسن: ما تقول أنت يا أبا سعيد؟
فقال الحسن البصري: أيها الأمير، قد قال الشعبي ما قد سمعت.
قال ابن هبيرة: ما تقول؟
قال الحسن: أقول يا عمر بن هبيرة، يوشك أن ينزل بك مَلَكٌ من ملائكة الله فظًّا غليظًا لا يعصي الله ما أمره، فيخرجك من سعة قصرك إلى ضيق قبرك. يا عمر بن هبيرة، إن تعصِ الله لا يعصمْك من يزيدَ بنِ عبدِ الملك، ولن يعصمك يزيد بن عبد الملك من الله. يا عمر بن هبيرة، لا تأمن أن ينظر الله إليك نظرة مقت على أقبح ما تعمل في طاعة يزيد بن عبد الملك، فيغلق بها باب المغفرة دونك. يا عمر بن هبيرة، لقد أدركتُ ناسًا من صدر هذه الأمة كانوا والله على الدنيا وهي مقبلةٌ أشدَّ إدبارًا عليها من إقبالكم عليها وهي مدبرة. يا عمر بن هبيرة، إني أخوفك مقامًا خَوَّفَكَهُ الله فقال: {ذلك لمن خاف مقامي وخاف وعيد}. يا عمر بن هبيرة، إن تك مع الله في طاعته كفاك بائقة يزيد بن عبد الملك، وإن تك مع يزيد بن عبد الملك على معصية الله وكلك إليه.
بكى ابن هبيرة وقام بعبرته. فلما كان من الغد أرسل إلى الحسن والشعبي جوائزهما، فأكثر فيها للحسن، وكان في جائزة الشَّعْبيِّ بعضُ الإقتار.
فخرج الشعبي إلى المسجد فقال: أيها الناس، من استطاع منكم أن يؤثر الله على خلقه فليفعل. فوالذي نفسي بيده، ما علم الحسن منه شيئًا فجهلتُه، ولكن أردتُ وجهَ ابنِ هبيرةَ فأقصاني الله منه، فكان الحسن مع الله على طاعته فحباه الله وأدناه.
فوائد وعبر
القصة تبرز صورة مشرقة من صور الجرأة في قول الحق والنصيحة الصادقة التي يؤديها العلماء أمام الحكام، مهما كانت عواقبها. فقد كان الحسن البصري مثالاً للعالم الرباني الذي لا تأخذه في الله لومة لائم، إذ واجه عمر بن هبيرة بالحقيقة من غير تردد، ناصحًا له بالتمسك بطاعة الله على حساب طاعة الملوك. ومن الفوائد في القصة:
- الصدق في النصح: الحسن لم يجامل الوالي، بل صدع بالحق كما أمره الله.
- الإخلاص في القول: لم يكن في نصحه طلب دنيا أو جاه، بل نصح خالص لله تعالى.
- الخوف من الله فوق الخوف من البشر: الحسن ذكّر عمر بن هبيرة بأن سلطان الله أعظم من سلطان يزيد بن عبد الملك.
- الزهد في الدنيا: أشار إلى أن السلف الصالح زهدوا في الدنيا رغم إقبالها عليهم، بينما الناس اليوم يقبلون عليها رغم إدبارها.
- تحمل المسؤولية أمام الله: الخطاب كله يقوم على فكرة أن كل إنسان محاسب أمام الله على أفعاله مهما علت منزلته.