قضية نوال الدجوي.. الرَّحِم مقدَّمة على التركة

تشهد المجتمعات العربية والإسلامية في السنوات الأخيرة تناميًا ملحوظًا في
الخلافات العائلية عقب وفاة أحد المورِّثين، وعادة ما تكون التركة سبب النزاع،
الذي يصل في معظم الحالات إلى ساحات القضاء، وفي حالات ليست قليلة تقع جرائم نفس،
فيقتل الأخ أخاه أو قريبًا من قراباته.
وتُجسّد قضية نوال الدجوي في مصر، التي ارتبط اسمها بالاستثمار في التعليم
الخاص، مظهرًا من مظاهر التدهور في ثقافة الأولوية داخل العائلة؛ إذ قُدِّمت
الأموال على الأُخوة، والتركة على الرحم.
والمشكلة ليست في الميراث في حد ذاته، فهو حق شرعه الله، بل في النفوس التي
لم تتربَّ على أن الرحم أسبق من الأرض والعقار، وأنه لا متاعَ دنيويًّا يستحق
قطيعة الأهل والأحباب، أو استدعاء الشقيق أو الشقيقة إلى ساحات المحاكم ومقارّ الشرطة،
فيتحول أبناء الدم الواحد والرحم الواحدة إلى أعداء متكالبين، من هنا تبرز الحاجة
إلى مراجعة تربوية؛ لمعرفة من المتسبب في هذا الواقع الأليم، وكيف نعيد ترتيب
الأولويات في وجدان أبنائنا قبل فوات الأوان.
صلة الرحم فريضة وليست نافلة
ما من حالة من حالات النزاع العائلي حول الميراث إلا وسبقتها قطيعة رحم،
بدرجة أو أخرى، فرأينا –من ثم- غلبة «الحق المالي» على حساب رابطة الدم، وخلت
العلاقة بين المتنازعين من أي وازع ديني أو وجداني، وهو ما يشير إلى خلل في
التنشئة والتوجيه، والجهل بخطورة قطيعة الرحم، وهو ما يحمل على الكِبر، وتدبير
المكائد والمؤامرات لإيذاء الطرف الآخر، بعدما نسي الأبوان في زحمة الحياة تعليم
أبنائهما تلك الفريضة، بل قل: إنهما لم يكونا يطبقانها في حياتهما من الأساس،
ومعلوم أن فاقد الشيء لا يعطيه.
فهذا الأب الذي انشغل بجمع المال من قريب وبعيد، وحرام وحلال، لم يكن
متصدقًا على رحمه، ولم يهتم يومًا بالتقرب إليهم، أو زيارتهم، أو مشاركتهم أفراحهم
وأتراحهم، بل لم يردّ وصالهم بعدما وصلوه، وفي أحايين كثيرة كان يسيء إليهم بالقول
والفعل، فهل يُرجى أن يعقبه ولدٌ يعرف معنى الرحم، وأنها من أفضل ما يتقرب به
العبد إلى الله عز وجل، وأنها واجب على كل مسلم ومسلمة؟ وأن الله ورسوله أوصيا بها
في كثير من الآيات والأحاديث؛ (وَاتَّقُوا اللَّهَ
الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ
رَقِيبًا) (النساء: 1)، «الرحم شِجنة، فمن وصلها وصلته، ومن قطعها قطعته» (رواه
البخاري).
لماذا تنشأ الصراعات؟
على الرغم من عناية الإسلام بقضية الميراث؛ إذ لم يترك توزيع التركة
لاجتهاد الورثة واختياراتهم؛ فإن الصراعات بين الورثة ما زالت فاشية في مجتمعاتنا،
بسبب سياقات اجتماعية وثقافية؛ منشؤها الطمع من جانب بعض الورثة، أو خطأ المورِّث
في عدم توثيقه للتركة، أو عدم ترك وصية واضحة تحسم الخلافات، أو الجهل بأحكام
الميراث والإصرار على التوزيع الخاطئ للحقوق، وهناك أيضًا من يفرض سيطرته على
التركة، فيتحكم –ظلمًا وعدوانًا- في إدارتها بالصورة التي يريدها دون رضا الآخرين.
وإذا لم ينشأ الأبناء منذ صغرهم التنشئة الأخلاقية السليمة، بتقدير العدالة
واحترام حقوق الآخرين؛ فإنهم يشبون وهم يرون أنفسهم الأحق بكل شيء دون الغير، وإذا
أُهملت تنشئتهم على القناعة والرضا بما قسم الله؛ فإنهم يصيرون مثالًا للطمع
والشراهة، ويضعون أنفسهم دائمًا في مقارنة مع الآخرين، ولو كانوا إخوتهم، ويشعرون
بالغبن الكاذب حتى لو حصلوا على حقوقهم كاملة، كما أن تمييز الأب بين الأبناء
يورِّث شعورًا بالظلم لدى البعض، ويمهّد لصراعات بين الأشقاء تتفجر في لحظة وفاته.
مسؤولية الآباء في وقاية الأبناء من النزاعات
يقع على الآباء مسؤولية كبيرة في وقاية أبنائهم من الخلافات فيما بينهم حول
الميراث؛ ما يسهم في الحفاظ على الروابط الأسرية ومنع تفكك العائلة بعد رحيله، ومن
سبل تلك الوقاية:
- زرع ثقافة «العائلة» في نفوس الأبناء: بترسيخ قيم الوحدة والتكاتف بين
الأشقاء، والتربية على الحب والاحترام المتبادل، والعمل بروح جماعية، وتعزيز صور
التواصل والتفاهم، والحديث بصراحة حول الآثار السلبية للنزاع.
- تنمية القيم الدينية والأخلاقية: مثل العدل والأمانة، والرحمة والإيثار..
إلخ، بما يسهم في غرس الضمير الحي في نفوسهم، والذي يقف حاجزًا دون التعدي على
حقوق بعضهم البعض، حتى في ظل وجود إغراءات مادية.
- غرس أولوية الرحم: بالتربية المستمرة، والقدوة العملية، وباستثمار
المواقف لتطييب خواطر الأقارب، والتأكيد على أن هؤلاء ليسوا قرابات فقط، بل قطعة
منّا.
- تعليم الأبناء أن المال وسيلة وليس غاية: وأن الأبقى والأصلح هو القلوب
النقية والنفوس المطمئنة الصافية، الخالية من الحقد والطمع، والشراهة والأثرة.
دعوة لتصحيح الأولويات
في خضم الحياة المادية التي طغت على مجتمعاتنا، وفي ظل اختلال الموازين،
وإعطاء الأولوية للمادة على حساب الروابط الإنسانية وعلى رأسها صلة الرحم، وجبت
الدعوة لتصحيح الأولويات، ورفع شعار «الرحم أولًا»، وتجاوز الاستحقاق إلى الإحسان،
وبناء مجتمع سوي، يحمي نفسه من التفكك، قائم على الأمان العاطفي والاجتماعي، مما
لا توفره القوانين وحدها.
و«الرحم أولًا» ليست مجرد عبارة تُنطق، بل مبدأ عملي يقدم العلاقة
الإنسانية على المصلحة، والرحمة على الدرهم والدينار، والوصال على الجدال والدفاع،
والنقض والإبرام، مبدأ ينظر إلى ثواب الآخرة قبل حساب الدنيا، ويسعى إلى رضا الله
وتحاشي الظلم وإصلاح ذات البين قبل أن يأتي يوم لا بيع فيه ولا خلال.